حرب المليشيات في السودان
خلال الشهور الماضية، ومع تعقد مسار العمليات العسكرية على الجانبين، شرع طرفا حرب السودان في استدعاء الحلفاء للقتال المباشر. ... بادرت قوات الدعم السريع باستدعاء قوات حليفة تسمّى "الفزع"، وهو لفظ يستخدم في غرب السودان لتلبية نداء القتال نصرةً لمظلوم أو دفاعاً عن حليف. وكان قائد "الدعم السريع"، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قد زعم في يناير/ كانون الثاني الماضي، أن القوات التي اجتاحت ولاية الجزيرة في وسط السودان هي من قوات "الفزع"، التي تقاتل لنصرته، لكنها لا تأتمر بأوامره، وأنه لم يأذن باحتلال الولاية! امتدّ هذا "الفزع" حتى أواسط أفريقيا وغربها، مستجلباً مقاتلين من بلدان عديدة. صح أو لم يصحّ هذا الزعم، فلا يمكن اتخاذه دليلاً على براءة "الدعم السريع" من الانتهاكات التي حدثت وتحدُث في ولاية الجزيرة، وغيرها من الأماكن. كما انحازت مليشيا "درع السودان" للدعم السريع، وهي كوّنت في ديسمبر/ كانون الأول 2022، وزعم وقتها قائدها (ضابط سابق في القوات المسلحة) أنها قوات لحفظ توازن البلاد العسكري الذي أضرّت به اتفاقية السلام بإدخال جيوش الحركات المسلّحة إلى المدن والسلطة! وأن عدد أفرادها يبلغ 35 ألف جندي. وأنهم لا يعترفون إلا بالجيش السوداني، لكن وجودهم فرضته ضرورة حفظ الأمن، حتى يتم دمج كل جيوش الحركات المسلحة في الجيش القومي! ثم بعد أقل من ثلاثة شهور من بداية الحرب، انحازت مليشيا درع السودان لقوات الدعم السريع ضد الجيش، وتبنّت خطاب الهامش والمظلومية نفسه. ويتمتع قائدها حالياً بنفوذ كبير في مناطق تحتلها قواته باسم الدعم السريع، لكنه تحالف يعتبره أغلب المراقبين هشّاً ومفخّخاً، وسينهار في أي لحظة بعودة مليشيا درع السودان إلى طوع الجيش السوداني، أو تمرّدها المستقل. هناك أيضاً مليشيات قبلية عربية في غرب السودان تقاتل مع قوات الدعم السريع، وتوجّه حربها نحو مكوّنات عرقية أخرى، انتقاماً لحروب قديمة، ما أسفر عن مذابح دامية في إقليم دارفور.
على الجانب الآخر، دخلت جيوش الحركات المسلّحة المربّع الأول من الحرب، عندما أعلنت إنهاء حالة الحياد ونيّتها القتال مع الجيش السوداني. وشرعت الحركات المسلّحة في تخريج المقاتلين لزيادة أعداد منتسبيها، في مخالفةٍ لأصل اتفاق سلام جوبا الذي قام على دمج هذه الجيوش وتجفيفها لصالح الجيش الوطني الواحد. لكن ما يحدُث عكس ذلك، فشهد عضو المجلس العسكري (الحاكم)، الفريق شمس الدين كباشي، تخريج الدفعة 37 من قوات حركة تحرير السودان التابعة للقائد أركو مناوي حاكم إقليم دارفور. كما سبقه زميله الفريق ياسر العطا بحضور تخريج 1500 مقاتل من مقاتلي حركة العدل والمساواة التابعة لوزير المالية جبريل إبراهيم! كما تقاتل مع الجيش قوات حركة تحرير السودان (قيادة مصطفى تمبور)، وهي حركة منشقّة عن انشقاق سابق من حركة حاكم اقليم دارفور!
هناك أيضاً مليشيات "الأورطة الشرقية" للقائد الأمين داود، وحوالي أربع أو خمس مليشيات أخرى معلنة في شرق السودان، ولاؤها حتى هذه اللحظة للجيش. ومن أوائل من بادر للقتال المنظم بجانب الجيش كانت مليشيا البراء بن مالك، التابعة للحركة الإسلامية السودانية، ونسبت لها أقلام صحافية مرتبطة بنظام المعزول عمر البشير كثيراً من انتصارات الجيش. كما بدأت عدّة ولايات سودانية في تدريب المتطوعين المدنيين وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم ومناطقهم أمام تقدم الدعم السريع. وذكرت تقارير إعلامية دولية أيضاً مشاركة قوات فاغنر الروسية في الحرب بجانب قوات الدعم السريع، مما جاء بقوات أوكرانية نفذت عمليات عسكرية لمساعدة الجيش السوداني!
هذه حربٌ تدور، إذن، فوق بحيرة من المليشيات التي تتناسل وتتزايد يوماً بعد يوم، والسلاح منتشر في أيدي المواطنين. في سبتمبر/ أيلول 2022 كرّر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة يونيتامس فولكر بيرتس تحذيراته من أن "السياسيين يجب ألا تكون لهم جيوش خاصة، وأن مستقبل استقرار السودان لا يمكن تحقيقه وفي البلاد خمسة إلى سبعة جيوش". ما كان خمسة إلى سبعة جيوش وقتها تضاعف لاحقاً. ورغم طرد البعثة، إلا أن المليشيات ما زالت تتوالد. والأشخاص والسياسات والرؤى التي صنعت مليشيا الدعم السريع لتقاتل بها الحركات المسلحة في إقليم دارفور تعيد إنتاج المليشيات لتقاتل بها "الدعم السريع". ... في تكرار حزين للدائرة المخبولة.