حرب إبادة لن تُجدي
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
تجاوزت الحرب على غزّة يومها الثامن عشر، وأنظار العالم كلها إلى فلسطين المحتلة، وإلى ما تشهده من حربٍ غير مسبوقة على الشعب الفلسطيني برمّته، حرب حصدت أرواح ما يزيد عن الستة آلاف شهيد، بالإضافة إلى الجرحى والمفقودين والدمار والخراب الشاملين للبنى التحتية والوحدات السكنية وإعلان انهيار المنظومة الصحية بأكملها في قطاع غزّة، ولا تزال آلة الحرب الصهيونية مصرّة على الإبادة الجماعية والتهجير والتقتيل والتشريد والتجويع، مرتكبة أفظع جرائم الحرب والفتك بالإنسانية وأشنعها، ومنتهكة كل المواثيق والأعراف الدولية بصفاقة وعنجهية لا مثيل لهما، والعالم عاجز عن الفعل أو ردّ الفعل يشاهد ويرصد ويندّد، وتلتقي قياداته مرارا وتكرارا، سواء في مجلس الأمن أو في قمّة القاهرة أو عبر اللقاءات الثنائية المتتالية والمكثّفة، وقد بدا الانحياز الغربي لعدوان الكيان الصهيوني مطلقا وغير مشروط.
كما بدا التواطؤ الرسمي العربي مهينا ومخيّبا لآمال الشعوب العربية الغاضبة والساخطة على حكّامها، هذه الشعوب التي خرجت بالآلاف لتعبّر عن استنكارها ورفضها القاطع المجازر التي يرزح تحت وطأتها الشعب الفلسطيني، وقد وجدت نفسها مكبّلةً عاجزةً عن اختراق الحدود الخانقة ورفع السلاح في وجه العدو الصهيوني، ومقصّرة في مناصرة إخوتها الذين استبسلوا في الصمود والكفاح والنضال، وقدّموا دروسا للعالم بأسره في الدفاع عن الأرض المسلوبة والمغتصبة، هذه الشعوب العربية ما عادت تقوى على تحمّل ما تشاهده يوميا على قنوات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي من مشاهد صادمة مؤلمة مدمّرة تدمي قلوبها وتشعرها بالقهر والظلم والعجز، بينما لا يحرّك قادة العالم ساكنا، بل يواصلون تواطؤهم المشبوه والمشين مع العدو الصهيوني بإيعاز وتدبير من الإدارة الأميركية التي لا تقلّ صهيونية ودموية وعنصرية عن دولة الاحتلال، وفي البال أن الهنود الحمر، السكان الأصليين للقارّة الأميركية الذين تعرّضوا لحرب إبادة جماعية وتطهير عرقي، هم "وحوش" الغرب الأميركي المتحضّر، وهم الشاهد على دموية تاريخه وطابعة الاستعماري والاستيطاني، ألم يقم الكيان الأميركي من أشتات مهاجرين أوروبيين اضطهدوا الهنود الحمر، وطمسوا هوياتهم ودمّروا حقولهم وهجرّوهم واجتثوا جذورهم وشنّوا مذابح ضدهم. وها هو وزير دفاع دولة الاحتلال الصهيوني يستعير هذا الوصف لينعت المقاومين الفلسطينيين الذين تحاربهم إسرائيل ب"الحيوانات البشرية"، ولينزع عنهم إنسانيتهم، وها هو الغرب "المتصهين" لا يزال وفيا لتاريخه القائم على إراقة الدماء واغتصاب الأرض والانحياز للعنصرية، يمارس اليوم نهمه الاستعماري والاستيطاني بواسطة حليفه المبجّل وابنه المدلّل الذي حذق صنعة والده بل تفنّن فيها.
لقد جعل هذا الغطاء الغربي وزير خارجية الكيان الصهيوني يمتلك من الجرأة والصفاقة في اجتماع خاص في مجلس الأمن، يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ليخاطب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، وندّد بانتهاكات صارخة للقنون الدولي الإنساني، بلهجة حادّة وبأسلوب مستفزّ، معتبرا أنه لا يعيش في هذا العالم وأنه لا يدرك ما يجري فيه. وفي الواقع، لم يتحدّ المبعوث الصهيوني المسؤول الأممي الأول في شخصه، بل بوصفه يمثل منظومة أممية لا يعترف بها الكيان المغتصب، ولا يعيرها أهمية، ويعتبرها من ضروب الهذيان والتخريف ومضيعة للوقت، فهو لم يمتثل مطلقا، وطوال تاريخه الغارق في مستنقع الدماء، للقرارات الدولية، بل انتهكها وأجحف في تجاهلها وأمعن في الاستهزاء بالشرعية الدولية، بل تعود على تطويع كل الوسائل لخدمة مشروعه الاستيطاني العنصري تحت مظلة أميركية تحصّنه من كل صنوف المحاسبة الدولية والعقاب، فلا مجلس الأمن بترسانته الردعية لكل تهديد للأمن والسلم الدوليين قادر على ردعه، ولا محكمة الجنايات الدولية بما تختزله من نظام عدالة دولية جنائية قادرةً على تتبّع مجرمي حربه، لا سيما وأنه لا يمثل دولة عضوا في اتفاقية روما لسنة 1998 المنشئة هذه المحكمة.
حرب 7 أكتوبر استثنائية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كشفت عن ازدواجية الخطاب الغربي الرسمي وعن عمق الهوّة بين الأنظمة العربية وشعوبها
وبالتالي، أين الحسيب وأين الرقيب؟ ونحن إزاء قانون دولي يكرّس الهيمنة والغطرسة وتحكمه المصالح وعلاقات القوّة والنفوذ، وتهيمن عليه قوى غربيةٌ لطالما تشدّقت بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات، واعتبرت نفسها رائدةً في الإنسانية، متفوّقة فيها موغلة في التحضّر، وهي اليوم تنظر إلى أطفال غزّة تُسفك دماؤهم وتمزّق أشلاؤهم من دون أن تقوى حتى على فرض هدنة إنسانية على الكيان الصهيوني، أو وقف فوري لإطلاق النار. وها هو الرئيس الفرنسي يهرول إلى "عرّابه" الصهيوني يقدّم له الولاء والطاعة، متجاوزا نظراءه الغربيين في التملق والانبطاح والاستبسال والمزايدة في الدفاع عن الكيان الصهيوني، حيث أعلن ضرورة إنشاء تحالف دولي لمقاومة "قوى الإرهاب"، وفي مقدمتها حركة حماس. وتناسى أن مصير عرشه بيد الملايين من العرب والمسلمين المقيمين في دولته، وأنه لا يملك من أمره شيئا، وأنه إنما يبحث عبر تصريحاته المستهلكة وغير محسوبة العواقب عن اكتساب بعض من الشرعية الدولية، مقابل تآكل شرعيته وشعبيته الداخلية واضمحلال رصيده السياسي البائس، وقد صرح أيضا وزير الهجرة البريطاني في اليوم التالي بأن دولته لن تطالب بوقف إطلاق النار، وأنه يعتقد أن إسرائيل لم تخرق القانون الدولي.
يبدو، إذا، أن السباق المحموم بين القادة الغربيين لم يعد بشأن التحضر والإنسانية، بل أضحى بشأن من يبلغ أعلى درجات "التصهين"، وهو أمر تفانوا فيه بإخلاص وتهافت مقيت، وبشكل مفضوح ولا أخلاقي، جعلهم يكشرون عن الحقد الدفين والكراهية للعرب والمسلمين، ويفضحون الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني، على حساب قيم ومبادئ كونية أعلنوا كذبا وبهتانا تبنّيها وحمايتها ونشرها في العالم بأسره، فأين نحن اليوم من مجتمع دولي يرتكز على مبادئ المساواة والحرية والتضامن الدولي والحقّ في الحياة وتجريم اللجوء للقوة في فضّ النزاعات الدولية وتكريس حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ الغريب أن معادلة الضحية والجلاد أضحت محلّ جدل وتشكيك، ومن كان يُفترض أن يكون جلّادا وسفّاحا تحول في أعين الغرب المخاتل والمخادع إلى ضحية تستوجب الحماية الدولية، واستخدام كل أساليب الدفاع عن النفس المشروعة وغير المشروعة، ومن كان ضحية يستوجب أن يكون محلّ حماية تحوّل في أعينهم إلى كائنات منزوعة الإنسانية، يجوز أن تسلّط عليها كل ضروب الإبادة والانتقام والتشفّي والعقاب الجماعي. وقد عبر عن هذه المعضلة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في الأمم المتحدة، حين تساءل إن كان الدفاع عن النفس يستدعي قتل آلافٍ من المدنيين العزّل وتشريدهم وحرمانهم من أبسط مقوّمات الحياة من ماء وطعام ووقود ومستلزمات طبية، ومن ثمّة شنّ حرب إبادة جماعية ضدهم، مشهرا عبر هذا التصريح بخرق أهم مبادئ القانون الدولي الإنساني، المتمثلة في ضرورة احترام مبدأ التناسب والتمييز بين المدنيين والمقاتلين، وتوفير حماية مكثفة للمدنيين العزّل في أثناء النزاعات المسلحة وعدم جعلهم أهدافا عسكرية.
يبدو أن السباق المحموم بين القادة الغربيين لم يعد بشأن التحضر والإنسانية، بل أضحى بشأن من يبلغ أعلى درجات "التصهين"
رغم قتامة الحرب التي تشن على شعب بأكمله، بل على أمة عربية بأسرها، فان الشعب الفلسطيني لا يزال شامخا في صموده ونضاله، وكأنه يدافع بالوكالة عن عزّة أمة وشرفها في هبّة شعبية عارمة، وفي ملحمة إنسانية نبيلة، ومازالت المقاومة المسلحة مستمرّة تعلو وتيرتها وتنخفض، لكنها حافظت على استمراريّتها، وما زالت تقصف قواعد عسكرية صهيونية وتحاول اختراق الأراضي المحتلة وتحقق أهدافا على ميدان الوغى والحرب، بل يعكس تردّد الكيان الصهيوني في خوض غزو برّي قطاع غزّة جبن قياداته وعدم جاهزيتهم العسكرية، ويشي، في المقابل، بجاهزية المقاومة الفلسطينية وقدرتها على كسب المعركة البرّية، لأنها صاحبة الأرض وصاحبة الحق، حيث بدا واضحا تخوف الكيان الصهيوني من السقوط في مستنقع حربٍ لا يمتلك أسباب نجاحها، كما أن اتساع رقعة الحرب وتعدّد جبهات القتال سيغيّر موازين القوى وينهك الكيان الصهيوني ويبثّ الرعب والريبة في صفوفه. أضف إلى ذلك أن المقاومة الفلسطينية وأذرعها الإعلامية، على محدودية إمكاناتها، نجحت في حرب الصورة والصوت، وفي فك الحصار المسلط عليها، وفي قلب موازين المساندة الدولية من مساندة غربية مطلقة للعدوان الصهيوني إلى مساندة مشروطة إلى تنديدٍ من بعض الأنظمة الغربية تحت ضغط شعوبها التي تلقّت الصور والفيديوهات التي وصلت إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الالكترونية وشاشات التلفاز، ورأوا بأم أعينهم وحشية الجرائم التي تُرتكب ضد الأطفال والنساء والمدنيين العزّل وحجم الدمار الذي لا يمكن بأيّ حال أن يتناسب مع الأهداف المقرّرة من الكيان الصهيوني أو أن يبرّرها. وحرب الصورة والفيديو هي لعمري أم المعارك في عصرنا "المعولم"، من كسب رهانها وتمكّن من رموزها وحذق فنونها كسب الحرب وأجهز على العدوّ بالضربة القاضية، وما يُحسب للمقاومة أيضا أنها أحرجت الأنظمة العربية المطبّعة، وجعلتها في مواجهة مباشرة مع غضب شعوبها وسخطهم، ودفعتها إلى تكثيف تحرّكاتها وضغطها، رغم ضعف أدائها وتذبذب مواقفها.
كل هذه المعطيات تجعل حرب 7 أكتوبر استثنائية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كشفت عن ازدواجية الخطاب الغربي الرسمي وعن عمق الهوّة بين الأنظمة العربية وشعوبها، وعن وهم الجيش الصهيوني الذي لا يُهزم، حربا ستغيّر مجرى التاريخ وجميع المسلمات الجيوسياسية، ولن تكون كسابقاتها، بل هي معركة حاسمةٌ ستتوّج بنصر مبين، بإذن الله ووعده المحتوم.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية