حرائق لم تهدأ بعد في دمشق
تقع دمشق فوق تضاريسَ دائمة من مجابهة النيران. ولذلك لم تكن تستمرئ الاستلقاء تحت مزاج سلطات انتدابٍ واحتلالٍ تتالت عليها منذ مطلع القرن الفائت، من دون أن تُظهر هذه المدينة المرتابة دوماً، وذات المسلك الجغرافي المنبسط نسبياً عَداءً فطريّاً تجاه حكّامها المعاصرين بصورةٍ خاصة، فكانت تنتظر أن تحترق أولاً لتتغيّر، كأنما برعت في تقفّي النجاة من سطوة من تسلّط عليها إن أفسد جسمها بالحرائق، فهي التي كانت تجمع الخصائص المدينيّة لولاء العيش داخل سورها القديم، ثم في الاتساع العُمراني الذي خرج منه وسانده، بالإضافة إلى قربها وملاطفتها خصائص الحياة الريفية المنتشرة حولها بإمعان في الغوطتين الغربية والشرقية.
والثابت أيضاً أن دمشق تتقن جنيَ عافيتها، وإن ترافق ذلك مع محصول دمار وافرٍ قد تحصُده إثر معاركها المبعثرة حول خريطة الزمن، فتراها لا تتلفّت إلى جهاتٍ أخرى في أثناء سيرها القدريّ ذاك، ربما منذ قرّرت الفرار من مدفعية الانتداب الفرنسي، ونيران مندوبه السامي موريس بول ساراي بين عامي 1925 و1927 في نسخة مبكّرة من الثورة السورية الكبرى، كان بطلها حسن الخرّاط، بما أجاده من إغارةٍ وفرار واختباءٍ ومجابهةٍ أرهقت الفرنسيين خلال هاتين السنتين من عمر الثورة السورية ضد سلطتهم، وجعلتهم أسخياءَ في الدمار الذي ألحقوه بأجزاءَ عديدة من المدينة المسيّجة بسورٍ حجري، مثل سخاء نيرانهم وهي تحرق الغوطة الشرقية باحثةً عن حسن الخرّاط ومن معه من ثوّار، الأمر الذي أيقظ فكرة النزوح وضرورتها، بجعلها تقود أولئك القاطنين في الغوطة المحروقة إلى المدينة القريبة المنكوبة أيضاً، مضاعفين بقدومهم تعداد سكانها إلى نحو مائتي ألف وقتذاك.
هذي المدينةُ لا تتعافى إلا بعد أن تحترق، لا تتحرّر إلا بعد أن يُولمها حكّامها إلى النار، يفعلون هذا قبل رحيلهم، وهم مطمئنون
كان ذلك بمثابة أزمةٍ مركّبة المقوّمات، عاشتها مدينة دمشق في نهاية الربع الأول من القرن الماضي، بما حملته من انتكاسةٍ اجتماعيةٍ واقتصادية، وانتقاص من خصائصها المدينيّة الناشئة بحرص وهدوء شديديْن جرّاء إقحامها بالمسالك الاجتماعية أبناء ريف الغوطة باعتبارهم طبقة اجتماعية مختلفة العادات نسبياً عن دمشقيي المدينة الذين بدأوا يستكملون بناء المدينة الحديثة خارج سورهم القديم، من دون أن ينغّص هذا من تشكّل وعي عام ومشترك داخل الفضاء الاجتماعي أوجزَ نفسه لاحقاً بالإدراك العميق لفظائع الانتداب الفرنسي وميله المفرط إلى العنف والتدمير.
أيضاً ارتَدَتْ المنطقة في حينها ثياب الأزمة الاقتصادية العالمية، وذلك في ثلاثينيات القرن الفائت، والتي أثْرتْ بدورها سوق العاطلين من العمل، فبلغوا في دمشق نصف عدد سكانها، وتهالكت القوّة الشرائية لليرة السورية بسبب انهيار قيمة الفرنك الفرنسي المرتبطة به، وتقلّص نفوذ أبرز الصادرات السورية والقطن أوّلها، ثم الحرير الطبيعي، فالقمح. وكانت مطالب الناس وقتها تجتمع حول ضرورة العفو العام عن المعتقلين والمُبعدين لأسباب سياسية، ووحدة الأراضي السورية، والتعويض المالي للمتضرّرين من إحراق الفرنسيين الغوطة في عام 1925.
دمشق تتقن جنيَ عافيتها، وإن ترافق ذلك مع محصول دمار وافرٍ قد تحصُده إثر معاركها المبعثرة حول خريطة الزمن
وكان على الغوطة الشرقية أن تَضْرِبَ موعداً جديداً مع موسم نيرانٍ وحصار جديديْن، بعد 88 عاماً على تعافي حروقها من نيران الفرنسيين، إذ عاش قرابة 400 ألف سوريّ من قاطنيها أحد أطول وأقسى بشاعات حصارٍ عسكري عرفه تاريخ البشريّة الحديث، والذي امتدّ خمس سنوات، منذ إحراق قوات النظام المحاصيل الزراعية للغوطة عام 2013، وتطويق تلك الجغرافيا وإيصاد منافذ الحياة بوجه من فيها، فأكل الناس الحشائش البريّة وأوراق الشجر مضطرّين، ثم ضَرْبِها بالسلاح الكيماوي في أغسطس/ آب من ذاك العام، وأخيراً تهالكها صعبِ الرثاء عام 2018 حين بلغت نسبة الدمار في حي جوبر 93%، وفي عين ترما 73%، وفي زملكا حوالي 60%.
ألم تكن نيران الفرنسيين أكثر رحمةً عليها من نيران جيش النظام السوري؟! والذي أضاف إلى قاموس الحرائق الخاص بالغوطة معاني جديدة حين أدخلها في باب الحصار والتجويع والقصف الملوّن بأسلحة مختلفة. أليس في ذلك أيضاً شيءٌ من "التكرار التاريخيّ"؟ والذي دفع "ترومف" في أثناء بحثه عن فهم دلالات حدوث تكراراتٍ بعينها للاعتقاد بأن من الممكن للصنف ذاته من الأحداث أن يتكرّر في أيّ زمن، طالما أن الطبيعة البشرية لا تتغيّر، ويقول أيضاً: "تتضمّن الحالات الأصغر من تكرار التفكير عزلَ أي حدثين محدّدين يحملان تشابهاً بارزاً للغاية، والانشغال بالتوازي، وهو الذي قد يحمل أحداثاً متشابهة بين مجموعة منفصلة من الظواهر". لذلك، قد تغيب دمشق عن الحياة، فنقول إنها في إجازة، تحترق فنقول إنها تتطهّر من نجاسة حاكمها، يحتلّها الحقد الإيراني كما احتلها سلفه المغوليّ، فنقول إنهما مجرّد غبارٍ عالقٍ فوق حذائها العالي. صحيحٌ أنه منذ عقدٍ ونيّف نجد من الصعوبة بمكان وصفَ دمشق بالمدينة الحيّة البرّاقة، كما كانت في السابق، بعدما ساقها النظام إلى العتمة، وأغرقها بأعدادٍ مجحفة من النازحين جعلوا تلك العاصمة الكئيبة عاجزةً عن استيعابهم بصورة لائقة، لكننا نجد صعوبةً أكبر في تقبّل هُزالنا العاطفي تجاهها، تلك العاطفة التي منعنا عنها التغذية، وهذا يجعل من دمشق مدينةً حائرة، كما ويجعل منها معادلاً رمزيّاً لاستقواء النظام على قاطنيها، بما فيها من ترسانة أجهزةٍ أمنية، وما تمثله من المركزية التنفيذية للحكومة ومجلس شعب النظام، كما أنها لم تتقاعس أبداً في الإيحاء لنا برمزيّة الاختفاء القسري والتعذيب فيها، إذ تحوي على أكبر سجون النظام، وأعتى معتقلاته.
مُوقد النار، وصاحب المصلحة فيها هو إيران، بغرض وضع يدها على ملكية حيّ ساروجة التاريخي
كانت دمشق خلال سنوات الثورة ضد بشّار الأسد متفرّجةً على الريف المنتفض إلى جوارها، مستلبةً بلا صوت يعلو منها، ولا حتى حين كانت أصوات السوريين تختنق على مقربةٍ منها، هي كذلك بعدما احتلّها النظام باكراً، وسيّجها بالحواجز، وأدخل الاحتلال الإيراني في مجرى دمائها، من مقام السيدة زينب في الريف، وصولاً إلى مقام السيدة رقيّة في المدينة القديمة. وبموازاة ذاك التمدّد الإيراني السياسي والديني، استطاعت أيضاً كل تلك السنوات من القصف والحصار ليس على ريف دمشق وغوطتها الشرقية فحسب، وإنما على عموم الأراضي السورية، أن تخلق نزيفاً طرد نحو ستة ملايين نازح داخلي إلى أماكن أخرى غير أماكن سكناهم، ومعهم خمسة ملايين ونصف مليون نازح خارجي ومهاجر.
أما جديد الحفلات التي أقامها الاحتلال الإيراني في دمشق فكانت في منتصف شهر يوليو/ تموز الحالي، حين احترق حيّ ساروجة، وسط العاصمة، في حادثة جرّت الأسى والمرارة إلى قلوب الجميع، وأجمع كثيرون على أنّ مُوقدَ النار، وصاحبَ المصلحة فيها هو إيران، بغرض وضع يدها على ملكية هذا الحيّ التاريخي. وفي السابق، نال حي ساروجة، وهو أول امتداد عمراني أنشأه خارج أسوار المدينة القديمة المماليك نحو القرن الرابع عشر ميلادي، قسطاً وافراً من التخريب والتنكيل كان أكثره بشاعةً على يد القائد المغولي تيمورلنك عام 1400 حين أحرق حي ساروجة، وأحرق معه دمشق أيضاً. وكأن هذي المدينةُ لا تتعافى إلا بعد أن تحترق، لا تتحرّر إلا بعد أن يُولمها حكّامها إلى النار، يفعلون هذا قبل رحيلهم، وهم مطمئنون.