حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
تستمدّ السرديّة الشيعيّة عن ظهور المهدي المنتظر، ونهاية الزمان، مسوغاتٍ حكائيّة عديدة من نماء الحرب والعسكرة داخل سورية، ومن التشظّي الذي يغلّف هذا البلد، وينحره في عدّة مواضع، ويقسّمه إلى ولاءات متباينة. وبالرغم من التصفية الإسرائيلية المُرعبة لقيادات حزب الله خلال الشهرَين الماضيَين (بصورةٍ خاصّة)، غير أنّ معتقداتٍ مثل معاركَ يخوضها أصحابُ الرايات الصفراء اللون ضدّ أعداء الشيعة إنما تُمهّد لظهور المهدي، وهذا الذي يُكسِب الجانب الحكائي مقداراً دلاليّاً مناسباً على التجسّد الواقعي، فلون رايات حزب الله هو الأصفر، ولم يكن من قبيل المصادفة اختياره منذ تأسيس الحزب عام 1982، ثم جاءت المعارك التي خاضتها هذه المليشيا اللبنانية منذ العام 2013 ضدّ الفصائل الإسلامية السنيّة المسلّحة المناهضة للنظام السوري، لتزيد من نفوذ الرواية الشيعيّة الميثولوجيّة داخل الوعي الجمعيّ لمناصريها، والمتعلّقة باقتراب نهاية الزمان، وظهور إمامه المُنتظَر، أي التمسّك باستيلاد عناصر حكائيّة جديدة تتحدّث عن المثالية والعدالة المُتجسِّدتَين بشخصية المهدي، وهو الإمام الثاني عشر في سلسلة الأئمة عند الشيعة، ونجد في كتاب "الكافي"، أحد أهم كتب الفقه الشيعيّ، لمؤلّفه محمد بن يعقوب الكليني، أحاديث منقولة تستعطف الظرف الموضوعي لأجل إخراج الأسطورة المهدويّة من الفضاء الحكائي إلى الكيان الواقعي الحسّي... لكنّ حديثاً منسوباً إلى جعفر الصادق، يقول فيه: "قبل قيام القائم خمسُ علامات محتومات، اليمانيّ، والسفيانيّ، والصيحة، وقتل النفس الزكيّة، والخسف بالبيداء"، الأمر الذي يدلّ على أنّ اقتراب ظهور المهدي ضمن السرديّة الشيعيّة لا يزال غيرَ مرئيّ من الناحية الزمنيّة نتيجة انتفاء شرط تحقق أيّ من تلك العلامات، وفي الوقت ذاته، لا يقللُ استعصاءُ تحقق علامات الظهور تلك، من قوّة المرجعيّة العميقة والمؤثّرة للأسطورة الدينيّة داخل الفقه الشيعيّ، بشقّه الميثولوجيّ حين يحاكي حتميّة الجهاد، وهذا وعيٌ جمعيّ يصعبُ ليّهُ، أو إعادة طرحه للنقاش والتداول الفقهي، لأنهم أيضاً يقيمون وزناً لعلامةٍ أخرى من علامات خروج المهدي، تلك التي تخصُّ حديثاً منقولاً عن علي بن عيسى الذي نقله عن أيوب بن يحيى الجندل الذي نقله بدوره عن أبي الحسن الأول، وفيه "خروج رجلٍ من مدينة قُمْ الإيرانية، يدعو الناس إلى الحقّ، ويجتمع معه قومٌ قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح والعواصف، ولا يملّون من الحرب، ولا يجنون، وعلى الله يتوكّلون، والعافية للمتّقين".
في كتاب "الكافي" للكيليني، أحاديث منقولة تستعطف الظرف الموضوعي لأجل إخراج الأسطورة الشيعية المهدويّة من الفضاء الحكائي إلى الواقع المحسوس
هنا تتكلُ الدعاية الميثولوجيّة الشيعيّة على علي خامنئي، ليكون صاحبَ تلك العلامة، بعدما صار الوليّ الفقيه، والقائد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران منذ يونيو/ حزيران 1989، وهو الذي تتلمذ في حوزتي النجف، وقُم، وأعلنت جمعية حوزة قُم العلمية مرجعيّته المؤكّدة للشيعة الاثني عشريّة الأصولية، وذلك عام 1994، لتظهر لنا أهمية معالجة الخلل الناشئ بين المتخيّل والواقعيّ لدى صناعة الأسطورة الميثولوجيّة وتسويقها لديهم، وهنا يكتسب خامنئي أهمية استثنائيّة داخل الطقس الجهادي الشيعي، وتصير أفكاره بمثابة توجيهات عامة لا تقبل النقاش داخل الفضاء الاجتماعي، بما فيها الجهاد في سورية، ضدّ أعداء الشيعة، وتلبيةً لنداءات فقهيّة عميقة تستعجلُ خروج المهدي، وتستعجلُ أيضاً الثأر لمقتل الحسين بن علي، وهذا نجده في أحاديثَ عديدة، يستعملها فقهاؤهم كثيراً، وأحد تلك الأحاديث منسوبٌ إلى ابن عبّاس: "أوحى الله تعالى إلى محمد (ص) إنّي قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وأقتل بابن بنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً". طبعاً يحظى الحسين بن علي بمكانةٍ مركزيّة داخل العقيدة الشيعية، وربما ارتكزت بمجملها على مقتله في العاشر من محرّم سنة 61 للهجرة، الموافق 10 أكتوبر/ تشرين الأول عام 680 ميلاديّة، وهذا قد يضع الفظائع الكثيرة من قتل وتنكيل قامت بها مليشيات تابعة لإيران، وحزب الله، من أبرزها في مساق ذاك الثأر المؤجّل، والذي حوّل ريف دمشق وغيرها من مناطقَ في سورية خرائبَ وأطلالاً، ولا تزال هكذا حتى يومنا هذا.
أيضاً، صار الوزن السياسي للسنّة في سورية، بمرور الوقت، ولا سيّما بعد العام 2013 وزناً ضعيفاً، وغير مؤثّر في صناعة القرار، سواء داخل النظام السوري، أو داخل النظام العالمي الذي يدير الملفّ السوري. ونجد بصورة خاصّة اضمحلال هذا الوزن السياسي لدى سُنّة دمشق (الشوام) التي يُطبِقُ عليهم الإيرانيون الخِناقَ كما لو أنهم بالفعل قوّة احتلال أجنبيّ مباشر، بعد سيطرتهم على مفاصل أمنية وعسكرية وحكوميّة عديدة، ثمّ في ترسيخهم حالة التشيُّع بمظاهره العلنيّة، أو تلك المُخبّأة داخل أرديةٍ من التغلغل المدروس في الجامعات والمدارس والمناهج التدريسيّة، لدرجة أنّ اللغة الفارسية صارت منذ العام 2020 لغةً اختياريةً لطلاب المدارس الثانوية، عدا عن المحاولات الحثيثة لتقريب المدرّسين في مدارس العاصمة من المنظومة الإيرانيّة النافذة في إدارة الشأن العام، وهذا ما جعل تأثير مفهوم "الثورة الإسلامية في إيران"، ومراميها العديدة والداعية إلى مقارعة إسرائيل والولايات المتحدة، في طلبة المدارس معادلاً، أو ربما يزيد عن تأثير شعارات حزب البعث الحاكم الداعية إلى الوحدة والحرّية والاشتراكية، والتصدّي للإمبريالية والصهيونيّة والرجعيّة. من دون التقليل من أهمية نمو هياكل إيرانيّة تنظيمية تماثل اتحاد الطلبة السوري، أو منظّمة شبيبة الثورة، ومنها كشّافة الإمام المهدي، التي ازداد توسّعها خلال الأعوام الماضية، في محاولة لإقحام الميثولوجيا الشيعيّة المتطرّفة في أدمغة الشباب السوري، وهي في طور التشكّل والاكتساب والمحاكمة.
تمضي الآلة العسكرية الإسرائيلية في تجسيد "وعد" الله لإبراهيم، بالأرض بين الفرات والنيل، شرطاً للعبور إلى حدود غير حدود سايكس بيكو
كما نجد في سورية، وإلى جوار هذه المسيرة الشيعية ذات البعد الملحميّ المُتخيَّل، المسكونِ بكثير من المظلوميّة والثأر المؤجّل، بدايةَ نفوذٍ آخر تُرسّخهُ إسرائيل بنموذجها اليمينيّ المتطرّف، والتي لم تتردّد في إرغام رئيس النظام السوري بشّار الأسد على مُساكنة التخاذل، وتقديمه للرأي العام شخصاً انتهازيّاً وفاشلاً وجباناً يقود بلداً مهزوماً ومدمّراً، وبذلك يُفسح المجال كاملاً لتسمين الهذيان التلموديّ، الذي يريد جَلْبَ وعد الربّ من الحيّز المتخيّل المتعالي، إلى الواقع الموضوعي المُتجسّد، ومثاله ما جاء في سِفر التكوين من كتاب التوراة، حين وعد الربّ إبراهيم قائلاً: "لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر، إلى النهر الكبير"، أي من النيل إلى الفرات، ولعلّ مثل هذا الهوس الميثولوجي نجده مُجسّداً في خريطة إسرائيل الكبرى المحمولة بعناية على عملة العشر أوغورات (تساوي عُشر شيكل)، ونجد في المقابل كيف أنّ الآلة العسكرية الإسرائيلية تمضي (وإن على نحو مراوغ) في ارتكاب مثل هذا التجسيد المتطرّف في أرض الواقع، وتقديمه شرطاً ضمنياً يُتيح العبور إلى منطقة تكون حدودها غير حدود سايكس بيكو الحالية، وهنا يحتاج اليمين الإسرائيلي الحاكم إلى خوض صراعٍ ميثولوجي ظاهرهُ سياسي، وحامله هو العقلية اليمينية المتطرّفة التي تحكم إيران منذ 1979، بهذياناتٍ ترويعيّة مُتخيّلة، لا تقلّ بأساً عن الموروث التلمودي المُتخيّل لدى حكومات اليمين الإسرائيلي، على أن تكون سورية هي أرضَ الميعاد لاحتضان هذا الصراع في مراحل تطوره المقبلة.