حرائق في الجزائر أبطالها سحرة الإنترنت

15 نوفمبر 2020

حريق في سبتمبر 2007 في غابة قرب تلمسان شمال غربي الجزائر (فرانس برس)

+ الخط -

شهدت الجزائر، في بداية الأسبوع الثّاني من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، سلسلة حرائق استعر لهيبُها ليشمل عديد الولايات (المحافظات) من غرب البلاد ووسطها، أتت على آلاف الهكتارات من الغابات، وأحدثت كارثةً بيئيةً كبيرةً تلتها تعاليق، وخصوصا على وسائل التّواصل الاجتماعي، تتّهم بعضُها جهات خارجية وبعضها يومئ إلى نظرية المؤامرة لقرب الحدث مع استفتاء الدستور الذي كان قد انتهى منذ قرابة الأسبوع، وتخللّته اختلافات، وجدالات، وحالة من عـدم التوافق، وهو الشّأن الذي لا تخلو منه المواعيد السياسية في الجزائر، منذ عقود. في الوقت نفسه، كان صاحب الشأن، الوزير الأوّل، عبد العزيز جراد، وهو يزور منطقة تيبازة التي تضرّرت من الحرائق، يدلي بتصريحٍ عادي، أشار فيه إلى احتمال أن تكون الحرائق قد حدثت بخلفية إجرامية، وواصل كلامه، مشيرا إلى نيّة الدّولة القيام بالعناية بالضّحايا وتعويض الخسائر، سيما على المستوى البيئي، بالتّشجير، لتعويض الفضاءات الغابية التي ضاعت بفعل النّيران.

من العادي أن تشهد البلاد، يومها، تلك الحرائق التي رصدتها أقمار صناعية، وشملت مناطق مختلفة من العالم، وخصوصا منطقة جنوب المتوسّط، كما أنّ من العادي أن تكون الظّروف المناخية التي سادت المنطقة، ساعة اندلاع النيران، عاملا مساعدا على انطلاق النار، وعلى أكثر من نقطة، وإن تباعدت جغرافيا، بل من العادي، من ناحية ثالثة، أن يصرّح الوزير الأول بذلك التّصريح الذي لم يستبق به التحقيقات، ولم يُلق الاتهامات، جزافا، بل عمل، من منطلق مسؤولياته، على طرح الأسئلة التي يمكن أن يُفهم منها أنّ السُّلطات ستقوم بعملها، وفق خطواتٍ تضمّ إطفاء الحرائق، حصر الخسائر ثم جمع الأدلّة والقرائن، للتأكد من فرضية تدخّل العامل البشري في اندلاع الحرائق، وذلك، كله ما نظن أنّ السُّلطات قامت به، ساعتها، لنطرح سؤالا مهمّا له صلة بالإصرار على اعتبار النّيران حدثا سياسيا، بامتياز، وتفضيل الرؤية للحدث من خلال منظار نظرية المؤامرة.

تمّ التّركيز، في هذه القضية، عمدا، على شبكات التّواصل الاجتماعي، لتلصق الحدث إمّا ببقايا "العصابة"، حيث شاهدنا شعاراتٍ تُرفع كان مضمونها، باختصار، لم يتمكّنوا من سرقتها فأحرقوها... أو بأياد خارجية تحاول استغلال الأوضاع الحسّاسة للبلاد مع وعكة الرئيس الصحية، وإقرار التعديل الدستوري، بعد استفتاءٍ لم يشارك فيه الجزائريون بكثافة. وتمّ، من خلاله، إرسال عديد الرّسائل السياسية، في آن، إلى الموالاة التي شاركت في حملة التعديل الدستوري، ودعت إلى التصويت بنعم، من ناحية. وإلى المعارضة التي انقسمت إلى داعين بالتصويت بلا، وخصوصا منها الإسلاميين أو المقاطعين الذين استمرّوا في منطق التّغيير الكامل والقطيعة الشاملة، بعيدا عن أدوات النظام، نخبه ونصوصه القانونية، من ناحية أخرى.

كشفت المعالجة الإعلامية للحرائق عن تحوّل العالم الافتراضي إلى سلطة موازية لمنظومة صنع المعلومة في الجزائر

على هذا، أجمع الجزائريون على تسييس كلّ ما تشهده بلادهم، ولو بنشر هذه الأخبار غير الثّابتة، خصوصا أنّها تزداد انتشارا باستخدام بعضهم البثّ المباشر أداة يقولون، من خلالها، جميعُهم، إنّ في أيديهم ملّفات بعضها عن الفساد أو أسرار ما يجري في ردهات مؤسّسات صنع القرار في الجزائر، وبعضهم الآخر يدّعي أنها (الملفات) ذات صلةٍ بأحداث تجري لها تداعيات بشأن تسيير البلاد، اقتصادها، ومسارات أو سياقات ما يحدث وما سيحدث، في تناقض تامّ بين هذه الرواية أو تلك ومضمون البثّ القادم، عبر العالم الافتراضي، من بريطانيا، فرنسا أو إسبانيا، والكلّ، كما يُقال، يدّعي وصلا بليلى، وهي تأبى لهم .. ذاك.

كشفت المعالجة الإعلامية للحرائق عن تحوّل العالم الافتراضي إلى سلطةٍ موازيةٍ لمنظومة صنع المعلومة في الجزائر، أو هكذا أراد بعضهم إيهام النّاس بأنّ شبكات التّواصل الاجتماعي بلغت مستوى عاليا جدّا، يمكنها من مجاراة السياسة العامة للإعلام، على الرّغم من أنّ مرتادي تلك الشّبكات مجمعون على مزاجية أصحاب تلك الصّفحات وضعف مستوى بثّهم وضبابية مضمون ما يتحدّثون بشأنه، كما يدرك الجميع أنّ من غير المعقول أن يكون لدى كثيرين منهم أيّة علاقات بالعمل الإعلامي، ما عدا إعلامي واحد يبثّ من باريس، يتمتّع عمله بدرجة مقبولة من الاحترافية، إذ إنّه لا يعتمد إلاّ على المعلومات الموثوقة، ويقدّمها بمهنية كبيرة، من دون أن يغرق في الترّهات ومحاولات تشكيل العقول أو التّلاعب بها خدمة لمصالح الصّراعات السّياسية التي تلعب على أوتار الأوضاع الحسّاسة للظّرف سياسيا، صحيا اقتصاديا واستراتيجيا. 

أجمع الجزائريون على تسييس كلّ ما تشهده بلادهم، ولو بنشر الأخبار غير الثّابتة، خصوصاً أنّها تزداد انتشاراً

في النّتيجة، نحن أمام حدث، هو الحرائق، بل أحداث، بمختلف أنواعها، كما تمت الإشارة، تترافق مع ظاهرة إعلامية نحتاج للكشف عن مكنونها، لأنّ القائمين عليها يظنون أنّها تقوم بعمل توعية، ولكن بمضامين فارغة تتّخذ من العالم الافتراضي وسيلة للّعب على العقول، وبادّعاءات بامتلاك ملفّات عن بعضهم بعضا، وعن بعض الجهات، منها ما هو موالٍ أو معارض، ليجد المواطن، نفسه، في حيرةٍ من أمره أمام هذه المعلومات المغلوطة التي تتحدّث، للمفارقة، عن أمور مصيرية، سواء ما تعلّق منها بالصّراعات، في قلب النظام وهامشه، أو سياقات السّياسات العامّة، وبصفة خاصّة منها، على مستويين، الصحي والاقتصادي، بفعل الجائحة وتداعياتها على المديين، القصير والمتوسّط.

على الرّغم من الإجراءات القانونية التي طاولت مرتادي شبكات التّواصل الاجتماعي لوقف خطاب الكراهية وحماية الحياة الخاصّة، بعيدا عن الشّتم والسّباب، في نطاق مضمون ما يُبثّ ويُكتب على صفحات تلك الشبكات أو قنواتها، إلاّ أنّنا نرى أصحاب تلك القنوات يتبادلون الشّتائم ويتلاعبون بالمعلومة، بل يوهمون المواطن بأنّهم على صلةٍ مع جهات من النّظام تمدّهم بالمعلومات والملفّات، تمسّ، في بعضها، الأمن القومي للبلاد والسياسة العامّة في أكثر من ميدان و قطاع، وهو الأمر الخطير في الأمر، لتكون الجزائر، بفعل هؤلاء، أمام إشكاليتين، هما التلاعب بالعقول وادعاء الانتماء لجهات داخل النّظام، يمكن اعتبارهما مدعاة لوقف هذا الهراء، وكل ما يشكّله من تهديد للانسجام السياسي للنّظام وللمجتمع، كليهما.

يستدعي العالم الافتراضي الغربلة ليكون فضاء للوعي ولنشر المعلومة التي تخدم الجزائر ومصالحها

قد تكون تلك الأصوات من أشكال التّلاعب بالعقول، من أكثر من جهة، لها مصلحة في بقاء الأمور على ضبابيتها، وتستخدم تلك القنوات والصّفحات لنشر نوعٍ من البلبلة، لأنّ ما نشهده هو ضحالة في المستوى وضبابية في الطّرح، مع أهداف مشبوهة، ما يجعل من ذلك كله أبعادا على مصداقية منظومة التحكم في نشر المعلومة من السّلطة. ويفتح الباب، واسعا، أمام مشعوذين، سيتخذون من تلك المنّصات منابر لتهديد النّسيج الاجتماعي للجزائر وأمنها القومي، وتضخيم الانكشاف والضُّعف اللذين يتضاعفان مع ظروفٍ موضوعية، في مقدمتها الجائحة، انهيار أسعار المحروقات والتّسيير السّيئ للسّياسة العامّة في كلّ القطاعات عقودا.

لا يعني ما تقدم اعتبار أنّ العالم الافتراضي، بما يوفّره من تطلّعاتٍ لتوسيع فضاء حرية التعبير، فواعله وأدواته، بل يستدعي الغربلة ليكون فضاء للوعي ولنشر المعلومة التي تخدم الجزائر ومصالحها، إضافة إلى احتمال أن يكون منبرا للمواطنة الحقيقية بعيدا عن كل هذا الخلط بين الحقيقة والباطل وانتشار للاوعي.

قد يحدث ما حدث، في الجزائر، في أي بلد، وقد تكون من ورائه عوامل عدة، منها العامل البشري. ولكن ليس للعالم الافتراضي فرض مسار للتحقيق ونشر للإشاعات، ذلك أن مصلحة البلاد والأمن القومي مسائل حيوية لا يمكن التّلاعب بها، بل الأولى القول إن العقول لا يمكن التلاعب بها، لأن النتائج وخيمة على النسيج الاجتماعي، ووحدة البلاد ومصالح الوطن.