حديدي جابوتنسكي غيتو وليس جداراً
ما أطْلَقَ عليه الصهيونيّ سيّئ الذكر زئيف جابوتنسكي تسمية "الجدار الحديديّ" سوراً للكيان المجرم المحتلّ، ليس في الواقع سوى "غيتو" يهوديّ صهيونيّ معاصر يحاكي "غيتوات" اليهود على مدى التاريخ. كأنّها تسمية معدّلة مخفّفة لثابتٍ تاريخيّ يتصل بـ"المَعْزل" الذي يعني منطقة تعيش فيها مجموعة يهوديّة لأسباب مخالفة تماماً لمقولة "الاضطهاد"، فالصهاينة الإحلاليّون على أرض فلسطين، هل هم مُضطهَدون (بفتح الهاء) أم بالأحرى مضطهِدون (بكسرها)؟ هل تسلّلوا (بغطاءٍ وحمايةٍ من الانتداب البريطانيّ) وكانوا مضطهَدين أم مضطهِدين ومرتكبي مجازر ومرحِّلين بالقوة والترهيب شعباً آمناً في أرضه وبيوته ومدنه وقراه؟ إذن، لا مضطهَد في هذه الحالة بل مضطهِد متوحّش (حتى الساعة). وبالتالي، كان "المَعْزِل" أو "الغيتو" اليهوديّ تاريخيّاً معقلاً صافياً للتجمّع، فالاتحاد والاستعداد للانقضاض والسيطرة في سائر البلدان والمدن التي عرفت "غيتوات" يهودية منغلقة، فاسدة، خطيرة، وعدوانية.
اليوم، المدعوّة "إسرائيل" ليست، في الواقع وحقيقة الأمر، سوى "غيتو" كبير، مسوّر بالجدران المرتفعة والطرقات الالتفافية والأسلاك الشائكة والحواجز العسكرية، ولا يختلف الغيتو الإسرائيليّ عن أي غيتو، ماضياً وحاضراً، إلّا بالحجم فحسب. "إسرائيل" هي الغيتو اليهودي الأكبر على الإطلاق ضمن وطنٍ عربيّ معادٍ، على الأقلّ من الشعب العربي بأكثريته الساحقة، باستثناء أنفار في أنظمة مطبِّعة وعدد محدود من الانتهازيين، من بائعي العرض والشرف والأخلاق والوطنية. وما حدث في مونديال قطر خير دليل على النبذ الشعبي العربي للصهاينة.
تنظيم "الغيتو" هو من صلب المعتقد اليهوديّ، ومن التلموديين في شكل خاص وأساسيّ
في المؤتمر الصهيونيّ العالميّ الثاني في مدينة بال السويسرية عام 1898، قال صهيونيّ من كييف، يُدعى ماندل شتام: "يرفض العبرانيّون فكرة الانخراط في الشعوب الأخرى رفضاً قاطعاً، وهم دوماً أوفياء لأملهم التاريخيّ في إنشاء إمبراطوريّة يهودية عالميّة". ونجح التلموديّون ودعايتهم القويّة في زرع فكرة في رؤوس الناس مفادها أنّ "الغيتو" هو معتقل يُحشر اليهود فيه بضغط من مضطهديهم الغرباء، وفي هذا الكلام ذروة النفاق وقلب الحقائق رأساً على عقب، فالتجمّع ضمن غيتو هو مشتهى اليهوديّ وخياره وأقصى مُناه. لم يخلق الغرباء (أو الأغيار، أي غير اليهود) الغيتو الذي لطالما عُدَّ ضرورة دوغمائية شدّدت عليها قوانين التلمود، وكانت بدايات الغيتو (تخيّلوا المدى الزمني) في بابل، فمذّاك سار اليهود على الصراط التلموديّ الذي يمنع "الغوييم" أو الأغيار من مجاورة اليهود، وكان محرّماً على اليهودي بيع أملاكه لغير يهودي، إذا كانت تجاور أملاك يهوديّ آخر. والهدف جليّ: عزل اليهود عن بقيّة الناس من خلال حشرهم في "الغيتو". وظهر أوّل "غيتو" في بابل على أيدي اللاويين، أي قبل آلاف السنين من "غيتو" البندقية (1516)، الذي يتّخذه بعضهم مرجعاً ونموذجاً لـ"غيتو" الاضطهاد.
"الغيتو" هو بلا ريب أثقل الموروثات المعنوية بالنسبة إلى اليهودي المعاصر، إذ كتب أحد الشعراء اليهود: "غيتو، يا صديقي، حيث تموت كلّ الآمال مع الولادة". علماً أنّ اليهودي المعاصر لم يعرف الغيتو شديد الانغلاق (تحوّل مع الزمن إلى مفهوم الأحياء اليهودية في المدن الكبرى، مثل villejuif في فرنسا وبضعة أحياء في نيويورك وشيكاغو، إلخ)، إلّا أنّه يرعبه لدى التفكير فيه، فالتلمود ابتدع "الغيتو" ليُخضع أجداده، وكان في تلك الأزمنة البعيدة والمتوسطة والقريبة وسيلةً مثاليةً لعزل اليهود المبعثرين في أرجاء العالم، وتجميعهم في بقعة مغلقة لإبقائهم تحت الرقابة الدائمة ومنع اختلاطهم أو تزاوجهم مع الأغيار (تحت ذريعة "نقاء الدم" المقيتة، العنصريّة، الفارغة والمتهافتة).
لذا، فإنّ تنظيم "الغيتو" هو من صلب المعتقد اليهوديّ، ومن التلموديين في شكل خاص وأساسيّ. أمّا الادعاء بأنّ "الغيتو" يعني اضطهاد اليهود فهو من أساطير التظلّم الكاذبة في أمم شتى، من روسيا إلى أميركا، مروراً بأوروبا، وحتى شرقنا العربيّ. واستخدام هذا الزعم الكاذب والباطل يرمي أيضاً إلى إخافة اليهود وإرغامهم على عدم الاعتماد على ذواتهم خارج نطاق الطائفة. والهدف نفسه تخدمه الأساطير الراهنة عن "معاداة السامية".
كان اختفاء "الغيتو" في عصر المساواة ضربة لدعائم السلطة التلموديّة الأساسيّة، واستلزم إيجاد بديل سريع له
إليكم هذه الأمثلة التاريخية الموثّقة والمُفْحِمة: في الإسكندرية القديمة، التي يمكن اعتبارها مثل نيويورك في عصرنا، وأيضاً في القاهرة وقُرطبة في القرون الوسطى، حشر اليهود أنفسهم في أحياء خاصة، بناءً على إصرار الحاخامات الذين رغبوا في إبقاء جماعتهم في عزلة. وعام 1084 وجّه يهود مدينة شبيرا التماساً إلى الحاكم طالبين السماح لهم بإنشاء "غيتو" خاص بهم. وعام 1412 صدر في البرتغال قانون أُقرّ فيه حق اليهود في إقامة أحياء تخصّهم وحدهم في سائر أنحاء البرتغال، بناءً على طلبهم. واحتفلوا سنويّاً بإقامة أسوار (انظروا معي إلى جدران ـ أسوار ـ المدعوّة "إسرائيل") لأحيائهم في فيرونا الإيطالية لمناسبة عيد "بوريم" اليهودي. أمّا في روسيا القيصريّة وبولندا فكانت أحياء اليهود المغلقة أساساً ترتكز عليه المنظمات التلمودية، لذا عُدّت أي محاولةٍ للمساس بتلك الأحياء "اضطهاداً" صارخاً.
كان اختفاء "الغيتو" في عصر المساواة ضربة لدعائم السلطة التلموديّة الأساسيّة، واستلزم إيجاد بديل سريع له، إذ كان ثمّة خطر اختفاء ما يسمّى "روح الغيتو"، فكان البديل السريع ظهور الصهيونيّة ووطن خاص باليهود (غيتو كبير)، أي الهدف القديم. يقول برنارد براون: "حتى المعرفة السطحية للتاريخ تكشف بوضوح أن اليهود هم أنفسهم قد خلقوا الغيتو". البعث الحقيقي لـ"الغيتو" التلموديّ هدفه تدمير كلّ ما جاءت به المساواة وعزل اليهود مجدّداً عن الأغيار. من هنا قولي إنّ المدعوّة "إسرائيل" هي "الغيتو الحديدي" (من حديد ونار) لا "الجدار الحديديّ" بحسب تمويه جابوتنسكي اللفظّي التضليليّ. فالجدران تسوّر "الغيتو" لا أكثر ولا أقلّ. "الغيتو" هو الأساس، والجدران (حديديّة أو تنكيّة) هي الأداة. جدران لحماية "الغيتو" تسوّر الكيان المحتلّ، "الجدار الأمني" عند حدود الأردن، في الضفة الغربية (جدران الفصل العنصري)، جدار سيناء الجنوبي، جدار الحدود الشمالية للكيان مع لبنان ... لإيجاد شعور زائف بالاطمئنان في نفوس صهيونية مريضة، مذعورة، قلقة، موتورة، مسعورة، وقل ما شئت من نوع هذه الصفات، فهم يدركون (أو لعلّهم لا يدركون، وهذا أفظع!) أنّهم بما يفعلون حتى الساعة يجلبون لهم الكراهية وعداء المحيط، فإغلاق الحيّز أمام الآخرين يعني في المقابل إغلاقه على الذات.
تبدّى على مرّ الأزمنة المديدة أنّ من السهل إخراج اليهود من "الغيتو"، ولكن من الصعب جداً إخراج "الغيتو" من نفس اليهوديّ
هوس الكيان الدفاعي البائس والمرتعب خلف الجدران أطلق عليه علماء الاجتماع تعريفاً يتضمّن حتى كلمة "غيتو"، فهذا المرض الاجتماعيّ سمّوه Hypergttoization (الغيتويّة المفرطة، لو أردنا الترجمة الأقرب إلى العبارة الإنكليزية). والمدعوّة "إسرائيل" تعيش هذه "الغيتويّة" المفرطة، علماً أنّ الانكفاء المفرط يقضي في النهاية على "الغيتو" الذي يحمل هشاشته فيه. وارث عقليّة "الغيتو" التاريخية، التلمودية، يشبه ذاك المختبئ داخل غرفةٍ لا ينفذ الضوء إليها. إنّما هو وهم الجدار الذي إن حمى لا يحيي، وإن ارتفع فلا ضمانة لعدم سقوطه، وإنّ صدّ فلن يُعفى من إمكان التجاوز (هذا ما يفعله شبّان فلسطين الأبطال في الضفة). فلا جدار حديديّاً ولا تنكيّاً ولا حتى فولاذيّاً يحمي حلمك، يا جابوتنسكي.
تبدّى على مرّ الأزمنة المديدة أنّ من السهل إخراج اليهود من "الغيتو"، ولكن من الصعب جداً إخراج "الغيتو" من نفس اليهوديّ، فهو غير قادر على العيش حرّاً مثل البشر الآخرين الأحرار. فبعد 75 عاماً من إنشائه، يجد الكيان الإحلاليّ والمحتلّ المسمّى "إسرائيل"، الكيان المخترع، نفسه أكثر فأكثر في "غيتو" كبير محاط بالأسوار وسياجات ونظم حماية، فالمجتمع الإسرائيلي أضحى بأكمله مقطّعاً بالحواجز التي يرفعها سياسيّون ورجال دين عنصريون في وجه الإسرائيليين أنفسهم، فنزعة "الغيتو" هي التهديد الأخطر لوجود هذه "الإسرائيل"، لأنّ حياة "الغيتو" ليست حياة بشرٍ أحرار، و"الغيتو" مجال خانق يقلّص الوجود البشري إلى حدّه الأدنى، ويعفّن الحياة داخله. سيهرب من "الغيتو"، آجلاً أو عاجلاً، كلّ من وجد إلى ذلك سبيلاً. إذا استمرّ تعفّن الحياة في المدعوّة "إسرائيل" فإنّ كلّ من يقطنها سيظلّ يتطلّع إلى فرصة الحرية والنجاة بنفسه وبأطفاله من الاختناق ومن العفن الروحيّ والأخلاقيّ.