حديث عن مكارثية في مصر بمناسبة "أوبنهايمر"

حديث عن مكارثية في مصر بمناسبة "أوبنهايمر"

06 سبتمبر 2023
+ الخط -

شاهدتُ، أخيراً، فيلم "أوبنهايمر" الذي يُعرض على شاشات السنيما وسط ضجة كبيرة. إنتاج هوليوودي ضخم، وطاقم عمل احترافي، وممثلون لكل منهم باع طويل وأدوار عديدة متميزة وجوائز دولية. أما الحبكة الدرامية فهي شائقة مع سردية متميّزة لحكاية حدثت بالفعل، عن حقبة سوداء في التاريخ الأميركي، وهي حقبة المكارثية نسبة إلى جوزيف مكارثي (1908-1957) عضو مجلس الشيوخ، والذي شكل لجنة لتعقّب الفكر الشيوعي داخل وزارة الخارجية الأميركية، لكن أنشطته طاولت صحافيين وممثلين ولاعبي كرة وأيضاً علماء فيزياء وطاقة نووية.

يحكي الفيلم قصة عالم الفيزياء، روبرت أوبنهايمر، الذي جرى تكليفه بقيادة فريق من العلماء الأميركيين بهدف إنتاج القنبلة الذرّية، قبل أن تتمكّن ألمانيا النازية من إنتاجها. وبعد نجاحه في إنتاج القنبلة، ينتابه بعض الشعور بالخوف من النتائج والمترتبات، ثم ينتابه شعور بالندم الشديد بعد ما شاهده من دمار حدث في اليابان، وتزداد المخاوف من إمكانية حدوث سباق تسلح أو حرب نووية شاملة تقضي على البشرية، فيبدأ مع علماء آخرين في التحدّث عن ضرورة وضع اتفاق لوقف سباق التسلح بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

ويتناول الفيلم حقبة المكارثية في التاريخ الأميركي الحديث، فبالرغم من اعتبار أوبنهايمر بطلا قوميا في الولايات المتحدة، وأنه أبو القنبلة الذرية، يبدأ تحقيق معه ومع آخرين واتهامهم بالتعاطف مع الشيوعية، وتسريب أسرار القنبلة النووية إلى الاتحاد السوفييتي، ويتم التفتيش في علاقاته بشيوعيين قدامى، مثل أخيه أو حبيبته السابقة، وذلك كله وسط ما يشبه موجة من محاكم التفتيش التي تتهم كل من لديه ملاحظات أو انتقادات بأنه شيوعي خائن معادٍ للولايات المتحدة، ويسعى إلى الإضرار بمصالحها.

ممارسات في مصر مستمرّة أو تصريحات من مؤيدي السلطة تنزع صفة الوطنية عن المعارضين، أو اتهام كل من لديه رأي مختلف بأنه داعم لجماعات إرهابية أو يهدّد الاستقرار

ذكّرني "أوبنهايمر" بفيلم سينمائي رائع آخر، عرض قبل سنوات "good night and good luck"، عن المواجهة بين المذيع التليفزيوني اللامع في خمسينيات القرن الماضي، إدوارد مور، والسيناتور جوزيف مكارثي، إذ بدأ مور بإذاعة عدّة حلقات على قناة CBS تحذّر الشعب الأميركي من محاكم التفتيش التي يقوم بها مكارثي، وكيف أنها تهدّد القيم الأميركية في الأساس، وبدأ كذلك في فضح الإدّعاءات التي لجأ إليها مكارثي وفريقه، وأدّت إلى إيذاء موظفين أميركيين كثيرين، وفصلهم من أعمالهم أو سجنهم، فكانت تلك الإدّعاءات (الوطنية) مبالغا فيها، وتقوم على التهويل وفكرة التخويف من الليبراليين وكل من لديه رأي مختلف وكأنه عدو أو جاسوس.

بدأ مكارثي في شنّ هجوم مضادّ، وبدأت أجهزة أمنية في البحث في تاريخ العاملين في القناة التليفزيونية، وجرى اتهامهم بتبنّي أفكار الشيوعية التي كانت العدو الرئيسي للولايات المتحدة في ذلك الوقت. ويستعرض الفيلم فترة المواجهة الإعلامية في تلك المرحلة إلى أن سقط مكارثي، ودينت أفعاله بشكل واسع، بعد اتضاح استخدامه أساليب إرهاب الخصوم تحت شعارات حماية الدولة ومكافحة الجواسيس في الداخل.

في أيامنا هذه، أصبح مصطلح المكارثية يعني استخدام الأكاذيب والمشاعر الوطنية الزائفة من أجل إرهاب المخالفين. ومن أجل أن يكون الجميع صوتا واحدا، ولا يجرُؤ أحدٌ على معارضة السلطة أو رأي الأغلبية، أصبح مصطلح المكارثية يعني الإرهاب الفكري واستغلال المشاعر من أجل التنكيل بالصوت المختلف، وأصبحت المكارثية تمثل فترة سوداء ومستهجنة في التاريخ الأميركي، بل دين مكارثي نفسه قبل وفاته المبكّرة عن عمر يناهز 48 عاما.

ليست السلطة في مصر فقط من تستخدم أساليب "المكارثية" بل تعاني المجموعات المعارضة أيضاً من آفة التخوين والإقصاء

ذكرتني تلك الأفلام بفترة ثقيلة لا تزال مستمرّة في مصر، لما كانت الممارسات الأبرز، في النصف الثاني من 2013 وفي 2014، اتهام كل من يعترض على حال حقوق الإنسان بأنه داعم للإرهاب أو عضو في جماعة الإخوان المسلمين، وبعد ذلك طاولت التهم كل من يعترض أو يبدي تحفّظات على السياسات الاقتصادية أو القرارات الإدارية، ولم تقتصر تلك التهمة على المتعاطفين مع التيار الإسلامي فقط أو رافضي إجراءات ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013، بل طاولت ليبراليين وعلمانيين، وأيضا بعض مؤيدي السلطة بعد ذلك، عندما أبدى بعضُهم اعتراضا أو انتقادا ما. وشهدت السنوات الأخيرة حملات إقصاء واسعة طاولت قطاعات أوسع، حتى من هم خارج دوائر تأييد ثورة يناير ومطالب الحرية بشكل عام.

ربما خفتت حدّة تلك الإجراءات بنسبة طفيفة، لكن هناك ممارسات مستمرّة أو تصريحات من مؤيدي السلطة تنزع صفة الوطنية عن المعارضين، أو اتهام كل من لديه رأي مختلف بأنه داعم لجماعات إرهابية أو يهدّد الاستقرار. وهنا تثور الأسئلة: ما عدد السنوات اللازم، حتى يكون هناك إدراك جمعي بخطورة تلك الممارسات المكارثية على المجتمع؟ ومتى نرى نبذ أساليب التخوين ونزع الوطنية عن المختلف، أو متى تصبح المكارثية منبوذةً في مصر، كما حدثت في المجتمعات الغربية؟ أو متى نرى أفلاما سنيمائية تدين تلك الممارسات بعد فترة مكاشفة ومحاسبة؟ فالأزمة الكبرى أن ممارسات المكارثية، أو مبدأ تخوين المختلف، أو استخدام خطاب شعبوي لإرهاب المعارضين قد أصبح له جذور شعبية، أو يمكن القول إن هناك تقبلا لدى قطاعات كبيرة لفكرة التخوين واستباحة الآخر، قد يكون هذا نتاج الخطاب الشعبوي الكاره للاختلاف أو المعارضة منذ انقلاب يوليو 1952، غير أن عدة ظواهر استجدت في 2013 و2014، مخيفة استهان بها بعضهم، فقد كان هناك الجار الذي يمكن أن يشي بجاره ويتسبّب في سجنه، أو استحلال دم المعارضين والفرحة بالتنكيل بهم، بل كان هناك بعض الممارسات المخجلة من الإخوة في العائلة الواحدة، عندما يشي شخصٌ بأخيه أو أبناء عمومته أو يرسل معلومة كاذبه ضدّه من أجل الخلاص منه أو سجنه والتهرّب من مشكلات الميراث. بل المشكلة قد تكون أعقد من ذلك، فليست السلطة فقط من تستخدم أساليب "المكارثية"، بل تعاني المجموعات المعارضة أيضا من آفة التخوين والإقصاء ورفض الأخر، وهو ما شوهد أحيانا قبل 2011 من تفكّك وخلافات، وشوهد بقوة في 2012 و2013، حينما استحلّ بعضهم دم الآخر المختلف معه أيديولوجيا وتنظيميا، فلو تخيّلنا وصول بعض المعارضين إلى السلطة ما كان الآداء سيكون مختلفا عما نشاهده من السلطة الحالية. وبالرغم من تلك الأزمات والشروخ العميقة في الطبقة السياسية المصرية، وذلك التشرذم الحالي غير المسبوق، لا يزال هناك ممن يُحسبون على المعارضة من يستخدم شعارات الخيانة والعمالة ضد معارضين آخرين، يختلفون في التوجّه الفكري أو الكيان التنظيمي. ويطول الحديث بشأن ما تفعله المجموعات المعارضة المصرية ضد بعضها بعضا، وهذا هو لبّ الأزمة.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017