حتى يكون "المستحيل ليس مغربياً" حقّاً

حتى يكون "المستحيل ليس مغربياً" حقّاً

14 ديسمبر 2022
+ الخط -

تردّدت عبارة "المستحيل ليس مغربياً" كثيراً طوال فعاليات المونديال الذي تجري منافساته في قطر، وستبقى تتردد عبر السنوات المقبلة، وذلك على أثر الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي الذي أبهر العالم بأدائه الرائع، وقتالية لاعبيه الكبيرة، وما هو آتٍ مستقبلا، مع المباراة التي ستجري اليوم الأربعاء ضد فرنسا، قد يحمل معه المفاجأة السعيدة الكبرى عندما نرى لأول مرة منتخبا مغربيا عربيا في نهائيات المونديال وعلى أرضٍ عربية، عندها سيصبح المستحيل كرويا فعلا قاب قوسين أو أدنى حتى نراه يرفع الكأس الكروية الأغلى عالميا، ويتباهى بها في الملاعب مزهوا أمامنا.

لمعرفة كيف انتصر اللاعبون المغاربة على المستحيل، وصنعوا التاريخ بوضع قدم أول فريق مغربي وعربي داخل مربّع الكبار، أعيدوا قراءة سيرهم الذاتية، وكيف نحتوا مجدهم الكروي بعصاميةٍ كبيرةٍ، وبمعاناةٍ كثيرة تكبّدوها في مسيرتهم الكروية والتضحيات الكبيرة التي قدمتها أسرهم المتواضعة من أجل تحقيق أحلامهم. فما يجمع بين هؤلاء الأبطال ليس فقط إتقانهم فن مراقصة الكرة المستديرة، وإنما ما هو أعمق، أصولهم الأسرية المتواضعة، ومساراتهم التي تتقاطعها خطوط الألم والمعاناة، فكلهم، وبلا استثناء، أبناء طبقة شعبية، صعدوا من قاع المجتمع، يتحدرون من أسر فقيرة أو متوسطة الحال، وأغلبهم ولدوا لآباء مهاجرين امتهنوا مهنا شاقة، مثل العمل في البناء بالنسبة للرجال، وخدمة البيوت بالنسبة للنساء. أما الأبناء الذين تألقوا في المونديال فعاشوا وترعرعوا في أحياء هامشية داخل كبريات المدن الأوروبية أو في الأحياء الشعبية داخل أحزمة الفقر التي تلفّ أغلب المدن المغربية، محرومين من أشياء كثيرة، باستثناء حب ورعاية أسرهم التي ضحّت من أجل أن تصنع لهم مستقبلا بعيدا عن الواقع المرير الذي يجعل مغاربة كثيرين يغادرون بلادهم بحثا عن أفاق أرحب، ليعيش أبناؤهم بكرامة يفتقدونها على أرض أجدادهم.

تشكيلة المنتخب المغربي تعلمنا الكثير في الاعتماد على الديمقراطية والكفاءة والشفافية

وبعيدا عن دور الأبطال الذين قاتلوا على أرض الملاعب، وشغف الجماهير بلا حدود، والعواطف التي انفجرت في كل بيتٍ مغربي وعربي، وبراعة الأهداف، وتقنيات اللاعبين الكبيرة، والجمال والفرح والانتصار والسعادة .. فهذه أمور تشهدها كل مباراة كرة قدم، لكن هناك جوانب أخرى أظهرها لنا مونديال قطر، وخصوصا عند اللاعبين المغاربة. لقد أظهر القيم الحقيقية التي تكشف عن معدن الشعب الذي أنجبهم، قيم الأسرة والاحتفاء بالأمهات والآباء والزوجات والأبناء، وقيم الأخلاق الرياضية العالية التي تتجسّد في الانضباط والتواضع والروح الرياضية. كانت تلك لحظاتٍ قوية ذكّرت كثيرين بأن القيم الأصيلة هي التي تصنع مجد الشعوب العريقة.

وبما أن كرة القدم لعبة ديمقراطية تعتمد على معيار الكفاءة بالدرجة الأولى، وهي بطبيعتها شفافة، لأنها تلعب في فضاء مفتوح أمام الجمهور، فإن تشكيلة المنتخب المغربي تعلمنا الكثير في الاعتماد على الديمقراطية والكفاءة والشفافية، وفي هذا درسٌ بارعٌ للنخبة الحاكمة وللعبة السياسة التي تفتقد إلى مثل هذه القيم الكبيرة والمؤسسة. ما يجعلنا نتساءل باستغراب: لماذا تتألّق دولنا في الملاعب على المستوى الدولي أمام الدول المتقدّمة، وتتأخر في مجالات مهمّة في التعليم والصحة والتنمية؟ ماذا لو تم اعتماد معايير الكفاءة والديمقراطية والشفافية نفسها لاختيار من يمثل الشعب في مجالات أخرى، ألن نجد أبطالا يتألقون في هذه المجالات، على غرار الأبطال المُحتفى بهم اليوم؟ يكفي أن نسجّل مفارقة كبيرة تنغّص هذه الفرحة، وهي أن أبناء المهاجرين المغاربة الذين صنعوا الفرح المونديالي، ومثلوا بلادهم في أرفع وأرقى محفل دولي، محرومون باسم الدستور والقانون المغربيين من تمثيل أنفسهم ومواطنيهم داخل برلمان بلدهم!

ودائما مع مفارقات هذا الفرح المغربي، فقد كانت إحدى أقوى لحظاته التي حرّكت وجدان كل عربي، بل وكل الأحرار في هذا العالم، عندما رفع اللاعبون والمشجعون المغاربة العلم الفلسطيني إلى جانب العلم المغربي، رسالة واضحة إلى كل المطبّعين والمهرولين أن القضية الفلسطينية تسكن وجدان الشعب المغربي، وأن كل اتفاقات التطبيع التي توقع مع الكيان الصهيوني لن تغير أبدا من واقع الأمر الذي يقول إن لا شيء سيُنسي الشعوب العربية الجرح الفلسطيني الغائر في وجدان وضمير كل إنسان حر يكره بفطرته الظلم والعدوان.

يجب أن نبقى دائماً مع المطالبين بالحرية والديمقراطية والكرامة، لأنها هي الأصل والأصلح والأَبقى

اللحظات القوية في المونديال كثيرة ولا تُنسى، لكن لا يجب أن تنسينا مشاعر التعاطف، ولحظات الفرح الجنوني، الواقع المرير الذي لا يرتفع، واقع الفساد الذي يستشري بلا منازع في أرض المغرب، وواقع الحرّيات التي يضيق صدر السلطة بها كل يوم، وواقع الفقر الذي ينهش الفقراء والمنسيين، وواقع المعتقلين السياسيين في المغرب من صحافيين ومدوّنين وشباب، في عمر شباب اللاعبين الذين صنعوا الفرح المغربي، بل ويتحدرون من المناطق المهمشة والمنسية من "المغرب غير النافع"، يقبعون الآن في السجون منذ أكثر من خمس سنوات، لا ذنب لهم سوى أنهم رفعوا السقف عاليا في التعبير عن آرائهم، أو نزلوا إلى الشوارع يندّدون بالفساد ويطالبون بالحد الأدنى من الحرية والكرامة المفتقدة في بلادهم، الحرية والكرامة نفسها التي ترعرع في ظلها اللاعبون المغاربة الذين ولدوا في المهجر، وصنعت منهم الأبطال الذين أهدوا الشعب المغربي والعربي كل هذا الفرح الغامر.

انتظار نتيجة مباراة كرة قدم ليس هو أهم شيء في هذه الحياة، كما كان يقول أيقونة الكرة البرازيلي، اللاعب سقراط، لأن المهم هو القيم التي نحملها وندافع عنها، لذلك كان شعاره "أفوز أو أخسر .. ولكن دائمًا مع الديمقراطية". أما وأن المنتخب المغربي قد فاز بما حققه، لأنه لم يكن منتظرا منه بلوغ ما بلغه من رقيّ في هذا المونديال، وما قد يحقّقه اليوم من انتصار مستحقّ وموعود، أقول مع سقراط: نفوز أو نخسر .. لكننا يجب أن نبقى دائما مع المطالبين بالحرية والديمقراطية والكرامة، لأنها هي الأصل والأصلح والأَبْقَى.. وعندما يتحقّق هذا الثلاثي سيكون فعلا المستحيل ليس مغربيا.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).