حتى تحصُد السياسة ما زرعته البندقية
في حركات التحرّر، كما في أي حرب، تقول قاعدةٌ "البندقية تزرع والسياسة تحصد". ... بعد العملية، غير التقليدية للمقاومة الفلسطينية، جنوب فلسطين، يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، فإنّ أسئلة تفرض نفسها. أولاً، كيف ومتى يمكن إنهاء الحرب عسكرياً بأفضل نتائج ممكنة، خصوصاً إذا كان ثمن استمرار الحرب هائلاً؟ وثانياً، كيف يمكن ترجمة العمل العسكري إلى إنجازٍ سياسي؟
الوضع غير التقليدي، الذي يعيشه الفلسطينيون، أنّ القيادة الرسميّة، منفصلة تماماً عن التنظيمات صاحبة القرار والفعل في المواجهة مع الجانب الإسرائيلي. وهو ما أكده الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، في عدة محطّات، منها حديثه مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أول من أمس، الأحد، وقوله إن سياسات حركة حماس وأفعالها لا تمثل الشعب الفلسطيني، وإن سياسات منظمّة التحرير الفلسطينية وبرامجها وقراراتها هي التي تمثله، بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. لا تلغي هذه القناعة للرئيس عبّاس أنّ أصحاب قرار المواجهة في فلسطين، هم الجانب الإسرائيلي، تقابلهم فصائل وكتائب غير مرتبطة بمنظمّة التحرير التي باتت خارج معادلة الفعل على الأرض. وقد يعكس موقف الرئيس الفلسطيني هذا استجابة لضغط أميركي ودولي، ألح ليس على أن تعلن منظمة التحرير والسلطة الوطنية عدم مسؤوليتهما عما يحدث فقط، بل أيضا عدم اتفاقهما معه، بل وإدانته.
تنتهي حروبٌ كثيرة سياسيّاً بنتيجة تختلف عن مساراتها العسكرية، فقد يتحقّق نصرٌ سياسي رغم الهزيمة العسكرية، والعكس صحيح، والسبب في ذلك طبيعة إدارة أوراق القوة والتفاوض لإنهاء الحرب، وما بعدها. يبدو في الحالة الفلسطينية الراهنة أنّ أفضل إنجاز ممكن يتطلب عمل قيادة حركتي فتح وحماس معاً. وبقراءة هادئة، ومن دون حماسة بسبب الحرب، يجب القول إنّ عدم تبنّي موقف يتضمن تنسيقا معلنا بين الحركتين سيضرّ الموقف الفلسطيني كثيراً، وسيضرّ موقف منظمة التحرير بشكل خاص.
ما قامت به حركة حماس في أكتوبر الحالي زاد من رصيدها، وأهميّتها، وسيزيد من حضورها شعبيّاً
قد يبدو أنّ الحملة السياسية، وحرب الإبادة الإسرائيلية ضد "حماس"، مبرّرتان لبعض "العقلانيين" ليتبنّوا موقفاً يؤيد الابتعاد عن التنسيق العلني مع "حماس"، والاكتفاء بعدم الإدانة لما حدث والتركيز على قضايا الإغاثة والمساعدة. والواقع أنّ حشر منظمة التحرير وأجهزتها والسلطة الفلسطينية، نفسهيما، في دور من يقدّم مساعدات، وأدوية، ورعاية، اجتماعية وصحّية، لأهالي قطاع غزّة، هو نوع من تقزيم ممثل شرعي نفسه إلى مرتبة جمعية خيرية، وأنّ القول إنّ أعمال حماس (وضمناً فصائل ومجموعات أخرى تتفق معها وتشاركها) لا تمثل المنظمة وسياساتها ليس هو المتوقّع أو المطلوب.
ما قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، زاد من رصيدها، وأهميتها، وسيزيد من حضورها شعبيّاً، ويعزّز مكانتها عُنواناً وطرفاً ورقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية، بل وربما الإقليمية، فإضافة إلى المفاجأة الكبيرة عسكريّا، كشفت عن شبكة تحالفات إقليمية عسكرية، وسياسية، واستخباراتية، مع دول، وقوى رسمية وغير رسمية. قد يقال إنّ "حماس" ستتم إبادتها، كما قد يقال إنها لا تمتلك المكانة السياسية والقانونية التي تسمح لها بأن تكون طرفا أساسيا في التفاعلات الدولية، وطرفا مقبولا في أي عملية سياسية. الصحيح أيضاً أنّ أحداً لن يتفاوض الآن مع "فتح" ومنظمة التحرير، فقدرتهما على التأثير في الحدث على الأرض باتت تقترب من الصفر، وحتى لو اختفت "حماس" ستزداد المنظمّة ضعفاً. والسيناريو المرجّح أنّ مفاوضات مع حركة حماس ستبادر إليها، قريباً جداً، وحتى قبل انتهاء المعركة، أطراف دولية، والخيار الأمثل أن تكون منظمة التحرير جزءا من المشهد.
ما زالت منظمّة التحرير، وستبقى في المدى المنظور، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني لاعتبارات قانونية وسياسية عديدة
ما حدث هو شبيه بما حدث مطلع السبعينيات، أو بعد انتفاضة عام 1987، فحتى مع العمليات الفدائية لحركة فتح، بل وحتى مع العمليات الخارجية في أوروبا وغيرها، بدأ العالم يتفاوض سراً، مع "فتح"، وهو تفاوضٌ شاركت به أطراف دولية، بما فيها الاستخبارات الأميركية. ودائما يتفاوض الطرف الأميركي مع القوى المؤثرة حتى لو اختلف معها، فعل هذا مع حركة طالبان في أفغانستان ومع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وغيرها. يقوم بالتفاوض والحوار، في اللحظة التي يجد فيها أنّ هناك طرفا هو صاحب القدرة على الفعل، بينما يعلن موقفاً ضد هذه القوى. القوي هو من يفرض نفسه.
ما زالت منظمّة التحرير، وستبقى في المدى المنظور، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني لاعتبارات قانونية وسياسية عديدة. لكن هذه المكانة تتعرّض لتحدّيات، أخطرها وأبرزها من داخل المنظمة، من خلال عدم تفعيلها وتجديدها، وبعد هذا في المرتبة الثانية، يأتي التآمر الأميركي الأوروبي، والتخلي العربي. والخيار الأمثل لمنظمّة التحرير، ومعها "حماس"، الآن، هو تقاسم الأدوار والتنسيق.
لقد تكوّنت في إسرائيل حكومة تكاد تضم جميع الأحزاب، بمن فيهم عتاة الصهيونية الدينية المنكرون وجود الشعب الفلسطيني، الداعون إلى قتله، فما الذي يبرّر ألا يحدُث تنسيقٌ فلسطيني – فلسطيني. وحماس بحاجة إليه، حتى تجد طرفاً مقبولاً أو شبه مقبول دولياً ينقل موقفها، وقد يتخذ قراراتٍ نيابة عنها، وهذه فرصة أمام القيادة الفلسطينية، وأمام منظمة التحرير لتستعيد جزءا من مكانتها السياسية، ودورها الدولي.
على منظمّة التحرير أن تطرح أنّها تملك القدرة على التأثير في قرار "حماس" بالتنسيق معها، والحديث باسمها
العالم الذي سقط قناعُه أكثر من أي وقتٍ آخر غير مستعدٍّ أن يقدّم أي شيء للطرف الفلسطيني الذي وافق على المفاوضات والتسوية السياسية، والتنسيق الأمني. بالتالي، المخطّط العالمي هو إبادة سياسية ومادّية للشعب الفلسطيني، وقضيته، وليس فقط "حماس". ولتفويت الفرصة على هذا كله، ولتحقيق أفضل استثمار سياسي للإنجاز الفلسطيني العسكري، على الفلسطينيين إظهار توحدهم. على المنظمة أن تطرح أنّها تملك القدرة على التأثير في قرار "حماس" بالتنسيق معها، والحديث باسمها. و"حماس" أن تظهر أنّها مستعدّة لعملية سياسية، تتضمّن وقف الحرب، وتبادل الأسرى، وخطّة جديدة لتغيير الوضع في غزة، ووضع قواعد تتعلق بالاستيطان، والمسجد الأقصى وسوى هذا.
يمكن للقيادة الفلسطينية إعلان قائمة مطالب سياسية، أولها الحل السياسي والعملية السياسية، وثانيها وقف الحرب في غزّة، وثالثها، وقف الهجوم الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية، وغيرها من الأمور، وأن يكون هذا بتنسيق مع "حماس". المنظمة في وضع يمكنها من أن تضع تصوّرا للخروج من المرحلة، وتقديمه لحركة حماس، بينما تواجه فيه العالم، وهذه فرصة قد تذوي قريباً.
العالم لا يحترم إلا القوي، ولن يعطي الفلسطيني الضعيف والمنقسم سياسياً شيئا يذكر، مهما كان مسالماً. من دون أن يكون صاحب المكانة السياسية هو القادر على الحديث باسم العسكري، وأن يكون صاحب قرار في الشارع والميدان يفقد مكانته عاجلاً أم آجلا، رسمياً أو كأمر واقع، بينما صاحب الفعل العسكري، بحاجة إلى آليةٍ ليحصُد سياسياً ما زرعه.