حاشية في موسم "نوبل"
"لا يأتي الأفارقة إلى أوروبا فارغي الأيدي".. قال العبارة هذه الروائي وأستاذ النقد الثقافي، عبد الرزاق قرنح، الفائز، أول من أمس، بجائزة نوبل للآداب. قالها في مقابلةٍ مقتضبةٍ معه نشرتها مؤسّسة نوبل، دعا فيها أوروبا إلى اعتبار اللاجئين الأفارقة الوافدين إليها بمثابة ثروة. يبدو الرجل، وهو التنزاني اليمني الزنجباري الأصول، المهاجر إلى بريطانيا في شبابه، للعمل أولا في غير مهنة، ثم للدراسة الجامعية، ثم للتدريس الجامعي والتألق باحثا وناقدا، ثم ليفوز بجائزة نوبل، يبدو في قوله هذا كأنه يُطلق صيحةً لتصحيح حالٍ غير سويّ. ولمّا كان مؤكّدا أن المهاجرين الأفارقة في أوروبا، بكيفياتٍ شرعيةٍ أو بالتهريب أو باللجوء الإنساني، ليسوا كلهم ثروة، فإن المؤكّد أن سياسة رعايةٍ وتأهيلٍ، إنسانيةٍ وحضاريةٍ وتقدّميةٍ، كفيلةٌ بالعثور على من هم ثروةٌ من بينهم. يبدو هذا الكلام جائزا بشأن غير الأفارقة، اللاجئين الهاربين أو القادمين من أجل العمل الكريم أو الدراسة، فموسم جوائز نوبل للعام الحالي (ينتهي بعد غد الاثنين) لم يكتف بالحضرمي الأرومة، عبد الرزاق قرنح، دليلاً على "ثروة" المهاجرين من مجتمعاتهم العالمثالثية إلى الغرب، فثمّة أيضا عالِم الأحياء الجزيئيّة (ما هي؟)، عالم الأعصاب المتخصص في النقل الحسّي (ما هو؟)، أردم باتوبوتيان (54 عاما)، الأميركي الجنسية، اللبناني المهاجر، الأرمني الأصل، يقتسم جائزة نوبل في الطب مع عالم أميركي آخر، عن استخدامه "الخلايا الحسّاسة للضغط لاكتشاف فئةٍ جديدةٍ من أجهزة الاستشعار التي تستجيب للمحفّزات الميكانيكية في الجلد والأعضاء الداخلية". غادر بيروت التي درس فيها سنةً جامعيةً واحدةً إلى الولايات المتحدة، ثم درس ودرّس، وصار عالما بالذي أُشير إليه. وبعيدا عن سردياتنا التقليدية، نحن العرب، عن العقول المهاجرة، وعن أحمد زويل الذي لم يكن له أن يخترع ويتميز لو بقي في مصر، ثمّة المعنى الجوهري، البديهي، أن المواهب والقدرات الإنسانية تحتاج بيئات إبداع وتميز وابتكار، وأجواء صحية نفسيا وماديا ومعنويا، من أجل أن تعمل، وتطلق طاقاتها، وتستنفر مخيلاتها، من أجل أن تُنتج .. ثم تتألق، ثم تحرز التقدير والتكريم المستحقيْن.
تدلّ قوائم الفائزين بجوائز نوبل في فروعها منذ أزيد من مائة عام على القول أعلاه، ففيها أوروبيون وآسيويون (من اليابان مثلا) وجدوا البيئات العلمية للإنجاز والعطاء والاختراع في الولايات المتحدة، جامعاتها ومعاهدها ومخابرها. وثمّة أيضا في الآداب والفنون (السينما مثلا) من غادروا بلدانهم للإقامة في الغربين، الأوروبي والأميركي، وتفرّدوا وصاروا نجوما لامعة. ولكنها، تلك القوائم، ليست وحدَها تؤكد هذا، فالمنتخبات الرياضية، في كرة القدم غالبا، دليلٌ ظاهرٌ على أن ثمّة ثروةً حقيقيةً في المهاجرين إلى الغرب. كان غريبا جدا (أقلّه لكاتب هذه الكلمات) أن ثلث لاعبي منتخب سويسرا في كأس العالم عام 2010 سودٌ من أصولٍ أفريقية. وكان في محلّه تماما قول من قال إن للقارّة الأفريقية دورا كبيرا في فوز فرنسا بكأس العالم في مونديال روسيا 2018، للعدد غير القليل من اللاعبين في المنتخب من "المجنّسين" من أفريقيا، وطالعنا أن 40 لاعبا من أصول إفريقية كانوا في بطولة أمم أوروبا قبل عام، وليست منسيةً نجوميةُ الجزائري، زين الدين زيدان، في تحقيق انتصاراتٍ كرويةٍ فرنسيةٍ مشهودة.
غير بعيد عن المسألة المتحدّث عنها، ثمّة الكيني الأرومة الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة، واسمُه باراك حسين أوباما، وثمّة نوابٌ من أصولٍ عربيةٍ وأفريقيةٍ متعدّدة في الكونغرس وبرلماناتٍ أوروبية، وثمّة وزراء من أصولٍ مغاربيةٍ في حكوماتٍ فرنسية. وفي المقابل، ثمّة عنصرياتٌ بغيضةٌ تعبر عنها أصواتٌ يمينيةٌ متطرّفة، تستثمر في موضوع الهجرة وقضاياها، وتغذّي حساسياتٍ عرقيةً ودينيةً وإشكالاتٍ معيشية، سيما مع ما صارت تسبّبه أعداد المهاجرين المتزايدة من أعباء في غير بلد أوروبي. وإذ نلقى أخبارا سيّارة عن تميز شبّانٍ في الشتات السوري الراهن، كافحوا في كدّهم في غير شأن، وتمكّنوا من التغلب على ظروفٍ معيشيةٍ صعبة، وعلى بيئات النبذ والإنكار، في غير بلدٍ عربي، فإنها أخبارٌ تشيع الابتهاج والحبور، وهي، من قبلُ ومن بعد، تُطلق أجنحةً من الأخيلة بشأن زوبعةٍ من أسئلةٍ تستثير نفسَها بنفسها عمّا يمكن أن يؤدّيه هؤلاء لبلدهم وناسهم ومجتمعهم، بل ولأمتهم أيضا، لو أن سورية على غير الكارثية التي تقيم عليها منذ عقود ..
يا الله، لو أن سورية ليست على الحال الذي نعلم، لأعطت الثروةُ البشريةُ فيها العالم كثيرا، قد تقصُر جوائز نوبل عن مكافأته.