حاشية عن "عبث معهد العالم العربي"
بديهي أن يعتبر الكاتب معن البياري، في مقالته "عبث معهد العالم العربي" في صحيفة العربي الجديد (4/12/2021) الخلط الذي وقع فيه مسؤولو معهد العالم العربي في باريس، بمناسبة تنظيم معرض "يهود الشرق، تاريخ يمتد آلاف السنين" عبثاً، عندما هتكوا الحدود بين الأهداف الحضارية للمعرض إن وجدت، في هذه التظاهرة الكبيرة، والصهيونية وإسرائيل. وبديهي أن يعتبر الكاتب ما جرى "أمراً مرفوضاً، مستنكراً ومستهجناً"، خصوصاً وقد أعلن عضو اللجنة العلمية المنظمة للمعرض، دنيس تشاربن، أنّ متحف إسرائيل ومعهد بن تسفي في القدس المحتلة أعارا معهد العالم العربي عشرين إلى ثلاثين عملاً فنياً، لتكون ضمن معروضات المناسبة، وقال: "هذا المعرض هو الثمرة الأولى لاتفاقيات أبراهام. وهذا يبدأ من خلال التطبيع، نحن لم نعد نخاف إقامة معرض عن يهود الشرق، ولن تنطبق السماء على الأرض إذا أقمنا تعاوناً مع إسرائيل". واعتبرت مقالة البياري هذا "كلاماً خطيراً"، و"يعطي إسرائيل حق تمثيل اليهود في تظاهرة ثقافية عن الشرقيين منهم". وقد رفض بيان الحملة الفلسطينية العاملة للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) الصادر بالمناسبة كلام دنيس تشاربن. وأشار إلى تورّط المعهد في محاولات العدو الإسرائيلي المستمرة لتلميع جرائمه بحق شعوب المنطقة وتوظيف الفن والثقافة والتاريخ لخدمة أغراض سياسية واستعمارية"، وذلك بإقامة المعهد علاقاتٍ رسميةً ومؤسساتيةً مع جهاتٍ تابعةٍ للحكومة الإسرائيلية متورّطة في منظومة الاستعمار الإسرائيلية.
والواقع أنّ ما اعتبره الكاتب عبثاً، وأشّرت له الحملة الفلسطينية العاملة للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل من تورط المعهد سياسياً مع إسرائيل وغيرها... ليس جديداً، فمن معلومه أنّ رئيس المعهد، جاك لانغ، أشاد بالتطبيع المعلن بين المغرب وإسرائيل، وعلى هامش معرض "مسيحيو الشرق... تاريخ يمتد إلى عام 2017" كال مدحاً وتقريضاً للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لمواقفه "المشرّفة مع مسيحيي مصر"، فيما اعتبر تزلّفاً مجانياً للنظام المصري، الأمر الذي أثار لغطاً وهرجاً التفّ عليه رئيس المعهد بتفسيراتٍ جانبت وقع انزلاقه، وأكدت تماهي الحدود بين السياسي والثقافي في المعهد. وتذكُر كوادر عليا محايدة في المعهد أنّ ما خفي من انزلاقات هذه المؤسسة، خصوصاً رئيسها، كان أعظم.
الآمال التي حملها المؤسّسون والمثقفون من الجانبين ما فتئت تصطدم بإكراهات واقع أكثر تعقيداً مما كان متوقعاً زمن نشوة حلم التأسيس
والواقع أنّ معهد العالم العربي في باريس احتفظ أربعة عقود (تأسس عام 1980، وقام عملياً في 1987) بحضور مخاتل على المشهدين الثقافي والسياسي، حاول خلالها، بإجماع متابعين، تجسير المسافة وتقريب الفجوة بين فرنسا والعالم العربي. ولعلّه لعب أدواراً مهمة في هذا السياق، علها أسهمت في معالجة العلاقة المرتبكة بين الجانبين طوال أزمنة مضت، تجسيراً لهوة سحيقة بين عالمين تتنازعهما صراعاتٌ وخلافاتٌ دينية وسياسية، إلا أن الآمال التي حملها المؤسّسون والمثقفون من الجانبين ما فتئت تصطدم بإكراهات واقع أكثر تعقيداً مما كان متوقعاً زمن نشوة حلم التأسيس، فمنذ دشّنه الرئيس الفرنسي الراحل، فرنسوا ميتران، في أواخر عام 1987، راكم المعهد في مساره تطلعاتٍ وخيباتٍ شارفت، في محطّات عديدة، الخلافات بين الفرنسيين المؤسّسين والعرب الشركاء. فعلى الصعيد القانوني، تأسس المعهد بمرجعية قانونية فرنسية تحكمها سياسات فرنسية تنفذها وزارة الخارجية، الجهة المشرفة على توجهات المعهد والسياسة التي تحدّد استراتيجياته فيما حددت له مواثيق التأسيس. وقد برز الخلاف واقعياً على المستوى الإداري، إذ طالما ذهبت بوصلة الإدارة حسب إرادة الرئيس الفرنسي للمعهد بالاتجاه المغاير لرغبة المدير العربي له، إرادة مرتبطة قانوناً بمجلس السفراء العرب في باريس، الشريك الفاعل والمؤثّر في مجلس إدارة المعهد، ليبرز مع الأيام خلاف أكثر حدّة، فقد تكفلت الخارجية الفرنسية بـ 60% من الميزانية السنوية للمعهد، فيما تتكفل الدول العربية بالجزء الباقي، إلّا أنّ المعهد واجه شحّاً في تأمين تلك الميزانية بسبب تراجع الدعم العربي، وتنصل أغلب الدول العربية الأعضاء عن التزاماتها. ويبرّر العرب ذلك بخلافهم الجديد حول مرجعية المؤسسة، وتحفّظ الجانب الفرنسي على تعديل قانون المعهد وإخضاعه للقوانين الدولية، إلى جانب ما تردّد من تراجع الحماسة تجاه المشروع برمته.
ويبدو أنّ عدم انفتاح المعهد في برامجه على البعد الإسلامي للثقافة العربية، على الرغم من أهميته، كان من الأسباب الأساسية لفتور الجانب العربي المترجم في شحّ التمويل وترشيح الكوادر العربية ذات الكفاءات المشهودة تسييراً وأداءً ضمن كوادر المعهد المائة والخمسين من مجمل كوادر المؤسسة. وفي المقابل، يرى الجانب الفرنسي أنّ المعهد مؤسّسة ثقافية فرنسية علمانية تحترم كلّ المعتقدات، ولا تخدم أو تتحيز لأحدها، وهذا بارز وواضح في نظامه الأساسي. ويقول المدير العام الحالي للمعهد، معجب الزهراني، الذي تنتهي ولايته بعد أسابيع: "الوظيفة الأهم للمعهد تتمثل في إبراز الصور الحضارية الجذّابة لمجتمعاتنا وثقافتنا التي يشترك في إنتاجها بشر منا جميعاً، وإن كانوا من غير عرقنا وعلى غير ديننا، وربما أسهمت أنشطة المعهد في نفي صورة العنف عن الإسلام، وعن أهله الأسوياء أكثر مما فعلت أيّ مؤسسةٍ دينية في بلداننا".
سيظلّ الفرنسيون متمسّكين بالمعهد، وعلى العرب أن يعيدوا ترتيب سياستهم إزاء مستقبله
وتأسيساً على ما سبق، فإنّ المعهد، على الرغم من أهميته الكبرى لنشر صور للثقافة العربية عبر مختلف مفرداتها الإبداعية في واحدة من أكثر العواصم الأوروبية احتفاءً بثقافات العالم وتفاعلاً معها، التي تسكنها جالية عربية تتجاوز ثمانية ملايين نسمة، فإنّ هذا الصرح العتيد لم ينجح، منذ تأسيسه، في التفاعل مع الواقع السياسي والاجتماعي في الراهن، علاوة على ازدواجية القيادة التي غالباً ما ولّدت مناخاً يتسم بالمحسوبية والارتباك في أخذ القرار، فضلاً عن غياب قاعدة تمويلية كافية وثابتة، فهل يعيد الجانب العربي سياساته إزاء أهمية الدور الموكول إلى هذه المؤسسة الهامة، بتوفير القيادات القادرة، ورصد ما يلزم من المال، حتى ينهض المعهد بدوره في خدمة الثقافة العربية والاحتفاء بلغتها التي يستعد العالم والمعهد بالاحتفاء بها يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري؟
أخيراً، يمكن القول إنّ باعث السياسة الذي كان يسكن أروقة الخارجية الفرنسية إبّان مفاوضات تأسيس المعهد، وكان وراء رغبة الاشتراكيين الفرنسيين في إنشاء المشروع جسراً للتوغل في العالم العربي، قد يكون تحوّل من أروقة الخارجية الفرنسية الى أروقة المعهد العربي. لذلك، سيظل الفرنسيون متمسّكين بهذا الصرح، وعلى العرب أن يعيدوا ترتيب سياستهم إزاء مستقبله، عسى أن يفتحوا مجالاً جديداً للخروج من هذه الشراكة الملتبسة، بما يحافظ على بقاء المعهد ويخدم الثقافة العربية ومنجزاتها.