جنازات في سوق رفح
أمام إلحاح السيدة البدينة الطيبة التي استأجرتُ غرفة في بيتها الواسع الجميل، الملحق بحديقة وارفة، قبلتُ أن أشقّ غمار سوق قريبٍ مستحدثٍ في مدينة رفح، ويعرف بسوق "الطيارة". وقد أطلق عليه هذا الاسم ليسهل الوصول إليه والتعريف به، حيث يمتدّ من مفترقٍ يعلوه مجسّم لطائرة ويصل إلى حدود مدينة خانيونس بمحاذاة ساحل البحر.
ولأنني لستُ من محبّي ارتياد الأسواق، فكيف في حال الحرب، ولكن إلحاح الرفيقة أغراني باستغلال ساعات تعليق القصف الأربع اليومية، والتي تبدأ في العاشرة صباحاً. وهكذا كانت قدماي تغوصان بمياه الصرف الصحي فيما يتدافع المارة أكتافي وتزكم أنفي روائح كريهة لا توصف، ولكن عنوانها البؤس والفقر. تكتشف في سوق "الطيارة" أن العنوان الرئيسي لهذه اللوحة القاتمة ينقسم إلى عناوين فرعية فتختار لأحدها مثلاً مسمّى "موت وحياة"، فبمجرد أن سرتُ عدة أمتار، مرّت جنازة صغيرة لا يمكن أن تستنتج من مشهدها شيئاً، فلا امرأة تنتحب مثلاً، ولا دموع عالقة، فهناك شخص ما قد قُتل ولفّ بكفن أسود وحمله أربعة رجال فوق أكتافهم وهم يهتفون، فيما يتبعهم رجال لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
كان من الطبيعي في الأيام العادية أن يترك كل بائع بضاعته ويتبع الجنازة، فيما يغيّر المارّة مسارهم ليتبعوها، وتفعل ذلك السيارات والدرّاجات الهوائية. ولكن اليوم ومع تصاعد الأنباء عن ضراوة المعارك في غرب مدينة خانيونس فيمكنك أن تستنتج على عجل وتُكمل سيرك أن الشخص المحمول على الأكتاف قد سقط في محيط المشفى الرئيسي في المدينة، وقد لفّ بكفن قميء اللون من الجلد، وأن من حملوه يلهثون ويرتعدون من احتمالات الموت الكثيرة التي أفلتوا منها حتى قاربوا الوصول إلى إحدى المقابر الجماعية في رفح، مدينة النزوح الكبير.
ولكن اليوم، وأمام هذا المشهد، لم يحرّك أحدُهم ساكناً، فالجميع مشغولٌ بما يُعرض من بضائع مزجاة، ويحاول التخلّص منها والعودة سريعاً إلى الخيمة قبل أن تلحق به الأمطار أو الطائرات، وقد واصلتُ سيري فعلاً للسببين، وبعد أن قرأت في سرّي آيات قرآنية قصيرة بحسب ما تعوّدنا منذ صغرنا أن نفعل حين تمرّ بنا جنازة، وما إن واصلت سيري وأنا أنقل نظري على الجانبين الضيّقين من السوق، وأكتشف أن البضائع متشابهة، فكلّها لوازم غذائية وصلت على شكل مساعدات ويتم بيعها للحصول على مستلزمات أخرى، ولا ضير في أن يبيع أبٌ حليب الأطفال المجفّف للحصول على علبة من الدخان، فهو يقوى على تحمّل الجوع ومشهد أطفاله الهزالى، ولكنه لا يقوى على أعراض انسحاب النيكوتين من دمه.
ولذلك، ما إن واصلت سيري حتى رأيت امرأة منتحبة تجلس على حافة الرصيف وبين ذراعيها طفل ميّت بوجه غارق بالدماء، ولم أكن في حاجة لكي أستنتج أنها فرّت به على هذا النحو من المخيّم، وكانت تنادي باسم شخص ما، فيما يربت شخص آخر على كتفها محاولاً تهدئتها ويعدها بأن الشخص الغائب سيعود، ويبدو أنه الأب الذي سيأتي ليدفن طفله، ولك أن تطلق خيالك لكي تتصوّر أنه ما زال يحاول إنقاذ بقية الأطفال.
والغريب أيضاً أن هذا المشهد لم يستوقف أحداً، ولكني توقّفت قليلاً وقلبي يتقطّع، وحاولت أن أنحني لكي أربت على كتف الأم، ولكن جارتي جذبتني بقوّة من ذراعي وهي تنبّهني بأن علينا إكمال جولتنا علّنا نحصل على بعض المستلزمات بسعر أقلّ لو أوغلنا قليلاً في الشارع الضّيق الطويل، وقبل أن يباغتنا مطر أو قصف في الجوار المحيط.
هكذا كنتُ أمضي وأنا أشعر بوجع لا يوصف، لأننا وصلنا إلى هذه المرحلة، أن الخوف والحرص على ما تبقّى من الحياة قد جرّدنا من الإنسانية وتعاطف بعضنا مع بعض، وأصبحت المشاهد التي كانت تهزّنا وتقلب نظام يومنا وتغيّر جدوله ونمطه عادية نمرّ عليها من باب الاعتياد، ونتأقلم مع تكرارها مثلما تأقلمنا مع كل هذا البؤس الذي نعيشه.
عدتُ مع جارتي الطّيبة البدينة، ولم أغفل أن ألقي نظرة على الخيمة القريبة، وكانت الزوجة الشقراء التي يبدو أنها سليلة حسب ونسب تساعد زوجها في إشعال النار أمام الخيمة، وكنت أراها قبل أيام تقف على بعد منه مكتوفة اليدين، وتُلقي نحوه نظرات متأفّفة سرعان ما تبدّلت مثلما تبدّلت مشاعر الجميع نحو جنازات عابرة في السوق.