جماعة الحوثي والطريق إلى الرياض
أعادت زيارة الوفد التفاوضي لجماعة الحوثي إلى الرياض الملفّ اليمني إلى الواجهة السياسية، بما في ذلك رفع الآمال بأن تؤدّي مفاوضات الرياض إلى تمديد هدنة وقف إطلاق النار في اليمن وتوسيعها، إلا أنها، وإن شكّلت تحولا إيجابيا في علاقة الطرفين، بما في ذلك تغيّر مواقع القوى في المعادلة التفاوضية، إلا أنه لا يمكن البناء عليها لتحقيق اختراق حقيقي في الأزمة اليمنية، ناهيك عن وقف الحرب، إذ تتجاوز تعقيدات الملفّ اليمني الملف الاقتصادي الذي تتمحور حوله مفاوضات الرياض، من استمرار بيئة الحرب نفسها، وتعدّد الفاعلين الذين جرى استبعادهم من المفاوضات، وتناقضات رؤاهم ومشاريعهم بشأن طبيعة الحل السياسي، وكذلك مستقبل اليمن. وبالتالي، فإن مفاوضات الرياض، مع أهميتها السياسية، تعكس أولويات طرفيها في هذه المرحلة من انتزاع مكاسب سياسية واقتصادية، إلى الهيمنة على المسار التفاوضي للأزمة اليمنية.
فرضت طبيعة المتدخلين الإقليميين في اليمن، وكذلك مسارات الحرب، فاعلين رئيسين، السعودية مقابل جماعة الحوثي، على أن المفارقة ليست فقط في تحوّل طرفي الحرب إلى طرفين يهيمنان على المعادلة السياسية اليمنية، بل مصادرتهما الملفّ التفاوضي، وإدارته بحسب أولوياتهما، بحيث أنتج ذلك مستويات أخرى من الأزمات، والتعقيد، من تجريد حلفائهم وشركائهم من القرار التفاوضي الذي يعني استبعاد رؤيتهم السياسية لطبيعة الحلّ للأزمة اليمنية، والذي يعني، في الأخير، ترحيل الخلافات والتباينات، إذ إن السعودية وبتجريدها سلطة وكلائها المحليين من مجريات مفاوضاتها مع الجماعة، وتحويل نفسها وصيا، كرست مشاعر عدم الثقة والحذر بينها وبين وكلائها وشركائها أيضا، ناهيك عن تعطيل فرص إيجاد تقاربات يمنية - يمنية تؤدّي إلى التفاهم حول أسس مشتركة لحل سياسي يرضي الفرقاء، إلى جانب استبعادها شريكها الإقليمي، الإمارات، من الملفّ التفاوضي، والذي يعني جعلها خصما دائما، ومن ثم ربط الملف اليمني بتنافسهما الإقليمي، وأيضا استخدامه ورقة للتعطيل والضغط. وإذا كانت معادلة الأولويات، ومن ثم حساب حصد الأرباح، شكل حجر الزاوية في إدارة الملفّ التفاوضي بين السعودية وجماعة الحوثي، فإن احتكاره وربطه بأولوياتهما حصرته بطرفيها، ومن ثم عطّلت إمكانية أن تؤدّي هذه المفاوضات إلى تطبيع العلاقة بين الفرقاء اليمنيين، ناهيك عن إيجاد فرص حلّ سياسي، إضافة إلى تأزيمه بجعل الملفّ الاقتصادي النقطة المحورية في المفاوضات، قبل العسكرية والسياسية أيضا، والتي تعني استمرار الحالة الصراعية. ومن ثم، لم يحقّق طريق السعودية إلى صنعاء، وإنْ فرضته التحدّيات التي تواجهها في المقام الأول، لم يحقّق اختراقا في الملف اليمني، وهو ما ينطبق على زيارة وفد جماعة الحوثي إلى الرياض الذي حكمته طبيعة التحدّيات التي تواجهه في الوقت الحالي، أكثر منه رغبة بالمضي إلى تسوية سياسية شاملة تنهي الحرب.
مثّلت زيارة الوفد التفاوضي لجماعة الحوثي إلى الرياض انتصاراً سياسياً للسعودية، وذلك بإذعان قوة جامحة لسلطتها واعترافاً بها دولةً تهمين على القرار اليمني
الطموحات الجيوسياسية والاستراتيجية للسعودية جعلتها تتبنّى سياسة الحياد والتوازن لضمان مركز سياسي واقتصادي في المنطقة، بما في ذلك التأثير على السياسات الدولية، وذلك بتخفيض التوترات الإقليمية وحماية أمنها القومي الذي يشكّل اليمن محوره الجنوبي. ولذلك ظلّ إنهاء حربها في اليمن المحرّك للسياسة السعودية، من تفاوضها مع قيادات جماعة الحوثي، في صنعاء في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، لدفعها إلى قبول تمديد الهدنة وتوسيعها، ومن ثم وقف إطلاق النار بشكل دائم، إلى محاولة دعم وكلائها في سلطة المجلس الرئاسي، أي تثبيت الحد الأدنى من السلطة لرعاية مصالحها، ودعم أجندتها السياسية، بيد أن استمرار حالة اللاحرب واللاسلم، شكّل مأزقا حقيقيا بالنسبة للسعودية، اذ يعيق طموحها بالتحول إلى قوة توازن ووسيط في الأزمات الدولية، ومن ثم يقوض انتقالها من قوة متدخلة عسكريا في اليمن إلى وسيط سياسي وما يعنيه ذلك من طي صفحة سوداء في سياستها الخارجية، إلى جانب بقاء اليمن كساحة نشطة لتهديد مصالحها الحيوية، سواء من جماعة الحوثي أو من قوى أخرى، ومن ثم تقوض فرص الاستقرار الاقتصادي، وتعطل خططها بتحقيق رؤيتها الاستراتيجية في السنوات المقبلة، بالتحول إلى قوة اقتصادية وسياسية في العالم، فضلا عن أشكال التدخلات الاقتصادية والإنسانية الذي يفرضها عليها استمرار حالة اللاحرب واللاسلم في اليمن.
وأمام حرص السعودية على تقليص الخسائر المترتبة على تدخلها العسكري، فإن بقاء الوضع على ما هو عليه لا يصبّ في صالحها، إذ إن السعودية، وإن استطاعت كبح مغامرات جماعة الحوثي من خلال تطبيع العلاقة مع إيران، فإن تنامي تنافسها مع حليفها الإماراتي في اليمن دفع الإمارات في ظل تنامي عدم ثقتها بالسعودية إلى توظيف الملف اليمني ورقة ضغط على حليفها السعودي، بدءا بتصعيد الصراع وتهديد نفوذها في حضرموت إلى مدينة المهرة، إلى إعاقة جهودها في تثبيت سلطة المجلس الرئاسي بوصفه سلطة انتقالية، ومن ثم إعاقة أولويات السعودية في إدارة الملف اليمني. وأمام استمرار تشظّي المجلس الرئاسي، وتصاعد صراعات القوى المنضوية فيه، بين وكلاء الإمارات ووكلاء السعودية، فإنها راهنت، ومن باب سد الشرور، على دفع المسار السياسي اليمني، بما يؤدّي إلى إنهاء حربها في اليمن، وذلك بالاعتماد على سلطنة عُمان وسيطا، بما في ذلك علاقتها القوية بجماعة الحوثي، إلى جانب زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى مسقط، ومن ثم زيارة الوسطاء العُمانيين لصنعاء، ومصاحبتهم وفد التفاوض لجماعة الحوثي لزيارة الرياض في 14 سبتمبر/ أيلول الحالي، والذي اعتبرته السعودية تتويجا لنهجها السياسي الحالي، يفرضها وسيطا في الأزمة اليمنية، تماما كمسقط، ومن ثم رعايتها التسوية اليمنية - اليمنية المقبلة، وهو ما برز في تناول الوسائل الإعلامية الموالية للسعودية، التي اعتبرت الزيارة خطوة لتنفيذ المبادرة السعودية لحلّ الأزمة اليمنية التي أطلقتها في عام 2021، وتوصيف الجماعة مكونا يمنيا في السلطة المستقبلية مع المكوّنات الأخرى، مقابل التلميح لقوى مناطقية تعيق جهودها في تحقيق السلام.
الطريق إلى الرياض لا يعني سلاماً قادماً في اليمن، بل قفزاً على حالة الصراع، وبالتالي جولة تفاوضية تعكس أولويات طرفيها
في ضوء السرديات الإعلامية والخطابية لجماعة الحوثي المناهضة للسعودية، والتي تشكّل مرتكزا رئيسا دعم ثقليها السياسي والعسكري وكرّسهما، فإن زيارة وفدها التفاوضي للرياض يمثل تنازلا سياسيا معلنا، وكذلك تحوّلا في موازين القوى التفاوضية التي تدير الملفّ اليمني لصالح السعودية، فعلى الرغم من انخراطها، بشكل مباشر وغير مباشر، في مفاوضات مع السعودية، من اتفاقية ظهران الجنوب عام 2016 إلى التفاهمات التي رعتها مسقط، فإن الذهاب إلى السعودية يعني انتقال الفعل السياسي، بالنسبة للجماعة، من العاصمة صنعاء إلى الرياض، ومن ثم منح السعودية مشروعية كونها وسيطا في إدارة الملفّ اليمني، لا طرفا في الحرب. ومع أن الجماعة سوّقت زيارة وفدها بأنها خطوة لوقف الحرب في اليمن، من خلال التفاهم حول الملفّ الاقتصادي والإنساني، وتحقيق شروطها من صرف رواتب موظفي الدولة، واقتسام عائدات النفط والغاز، إلى توسيع رحلات مطار صنعاء، وإعادة إعمار اليمن، ومن ثم تقديم نفسها طرفا يمنيا يتفاوض مع السعودية، صبّ في صالح روايتها الرسمية استبعاد السعودية للمجلس الرئاسي من هذه المحادثات، إلا أن الأكيد هنا أن التحدّيات التي تواجهها جماعة الحوثي هي العامل الرئيس لدفعها باتجاه الرياض، إذ ضاعف المأزق الاقتصادي الذي تعيشه حالة انكشافها سلطة أمر واقع، لا على مستوى الإيرادات وحجمها، بل على مستوى إدارتها. ففي حين فشلت وسائل القوة التي تتبعها الجماعة، سواء بالتهديد باستئناف الحرب أو استعراض قوتها العسكرية لانتزاع مكاسب من السعودية، فإن إعاقة تصدير النفط في المناطق الخاضعة للمجلس الرئاسي، وتهديد السفن، لم يحقّق أيضا نتائج فورية تضمن لها الضغط على السعودية لتنفيذ شروطها. وأمام انسداد قنوات تفاوضها مع السعودية في الملفّ الاقتصادي، فإن استمرار التحدّيات التي تواجهها بوصفها سلطة أمر واقع بات يضغط عليها، وتحوّل إلى تهديد لسلطتها، إذ إن تضخّم نفقات أجهزتها السياسية والعسكرية والإدارية والأمنية، التي تعني أعدادا كبيرة من الموظفين، من العاصمة صنعاء، وكذلك المحافظات الخاضعة لها، بمديرياتها ونواحيها، إلى جانب موظفي الهيئات الموازية والمجالس واللجان الإشرافية التي شكّلتها الجماعة في مؤسّسات الدولة، إضافة إلى الموظفّين الرسميين في الجهاز الإداري والعسكري والأمني، وأيضا المتقاعدين، جعلها تحتكم لجهاز مترهّل وغير منتج، أصبح عبئا اقتصاديا وسياسيا عليها. وفي مقابل هذا التضخّم في الأجهزة، فإن إدارتها الموارد والإيرادات من مؤسّسات الدولة، إلى الضرائب وعوائد مطار صنعاء وميناء الحديدة، عمّق مستويات الاختلال في الثروة، ومفاقمة الأوضاع الاقتصادية للمواطنين في المناطق الخاضعة لها، ففي مقابل احتكارها الموارد والإيرادات، بما في ذلك عائدات مطار صنعاء وكذلك ميناء الحديدة التي تضاعفت إلى أكثر من 50% في هذا العام، فإنها قصَرت سداد الأجور للمتنفذين والمقرّبين منها، واستثنت في الأشهر الأخيرة قطاعات واسعة من أنصارها، التي أصبحت قوة ناقمة على الجماعة، إضافة إلى استمرار إحجامها عن سداد رواتب موظفي الدولة، وتحويلها إلى ورقة تفاوضية مع السعودية تخضع لمساوماتٍ طويلة، والتي تعني تأبيد معاناتهم. ومع أن الجماعة لجأت إلى سياسة القمع، فإن تنامي حالة السخط الشعبي على فسادها، خصوصا مع اقتراب الذكرى العاشرة لسيطرتها على صنعاء، التي أكدت فشل تجربتها في السلطة، ليس لخصومها وإنما لأنصارها، جعلها شبه عاجزةٍ في مواجهة هذه التهديدات. لذا كان طَرق باب الرياض فرصة مناسبة للجماعة، وفي هذا التوقيت الحرج، للقفز على مسؤوليتها كسلطة وإعادة ضبط ملفّاتها الداخلية.
الطريق إلى الرياض لا يعني سلاماً قادماً في اليمن، بل قفزاً على حالة الصراع. وبالتالي جولة تفاوضية تعكس أولويات طرفيها، ومن ثم يمكن مقاربتها في سياق المكاسب والخسائر. ومع أن الملف الاقتصادي من اقتسام عائدات النفط والغاز إلى سداد رواتب موظفي الدولة يقتضي توحيد المؤسّسات الاقتصادية والمالية المنقسمة بين طرفي الحرب، وقبلها تسوية سياسية، أي سلطة موحّدة تدير العملية، فإنه لا يمكن التكهن بالتنازلات التي قد تقدّمها السعودية للجماعة، وإن على حساب وكلائها. ولأن المهم هو المكاسب، تمثل زيارة الوفد التفاوضي لجماعة الحوثي الرياض انتصارا سياسيا للسعودية، وذلك بإذعان قوة جامحة لسلطتها واعترافا بها دولةً تهمين على القرار اليمني، إلا أن تحوّل السعودية إلى وسيط يقتضي، أولا، تغيير سياستها الخارجية ووقف أشكال تدخّلاتها وليس دعم وكلائها كالحالة اليمنية، في المقابل. ومع أن الطريق إلى الرياض قد يكون مكلفا بالنسبة للجماعة، في حال لم تحقّق اشتراطاتها، فإنها استطاعت امتصاص النقمة الشعبية، إلا أن ذلك لن يقوّض حالة التناقضات في مكوّنها بوصفها سلطة، ناهيك عن فسادها، وإن منحها طوق نجاة، ومن ثم آفاقا جديدة للازدهار.