جماعة الحوثي... جبهة جانبيّة ضد إسرائيل
ترافقت حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة مع حشد عسكري غربي غير مسبوق، ربما لم تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ حرب الخليج الأولى، تمظهر عسكرياً بالقوة الرادعة التي حرّكها حلفاء إسرائيل في المنطقة، والتي تنشط في مهمّة عسكرية وأمنية واستخباراتية ولوجستية لدعم إسرائيل، في حربٍ، كما يبدو، هي حرب الدول الغربية. فبعيداً عن تحيّزاتها التاريخية للكيان الإسرائيلي، على حساب الشعب الفلسطيني، فإن جملة من المصالح تتشابك في الوقت الحالي لتشكّل، كما يبدو، حلفا عسكريا وأمنيا يتبلور بشأن حماية أمن إسرائيل، وتمكينها من الردع العسكري إلى التمهيد لرسم معالم الشرق الأوسط الكبير، يبدأ من تجريف القضية الفلسطينية، وأي شكل من المقاومة الشعبية والعسكرية. ويمثل عزل مسارات الحرب الإسرائيلية على غزّة وتطوراتها عن عمقها الإقليمي والعربي أولوية حلفاء إسرائيل، لضمان تسوية الملعب الفلسطيني لصالح حليفها. وإذا كانت هذه المعادلة المختلّة واللاإنسانية قد جعلت من الدول الغربية طرفا في إدارة حرب إسرائيل على غزّة، فإن خوضهم الحرب بوسائل متعدّدة يضاعف من خطر توسّع نطاقات الرد إلى جبهاتٍ جغرافيةٍ عديدة، تتجاوز الساحة الفلسطينية، بما في ذلك الممرّات المائية التي باتت مسرحا رئيسا في هذه المواجهة، والتي تدخل اليمن من خلال هجمات جماعة الحوثي خط الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، إذ صعدت المأساة الفلسطينية المتولّدة عن جرائم الكيان الإسرائيلي، إلى جانب الدعم الشعبي الواسع لفلسطين، فاعلية دول الممانعة وقواها، وإن أعاد توزيع ثقلها، بما في ذلك طرقها وخياراتها في الردّ، ومع أن إيران، كإحدى أهم دول الممانعة، لم تدخل صراحةً في حرب غزّة، فإنها استطاعت، عبر وكلائها، تشكيل جبهة ضغط على إسرائيل وحلفائها الغربيين في المنطقة، وإن تمايز، من حيث المرونة، في تنفيذ هجمات خاطفة، وامتيازات المجال الحيوي، والتخفّف من تبعات المواجهة المباشرة مع إسرائيل، بما في ذلك تجنّب كلفتها الاقتصادية والإنسانية على مجتمعاتها المحلية.
في استراتيجية الدخول في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يختلف تعاطي القوى التي تتبنّى رسميا دعم القضية الفلسطينية، ففي حين يبدو حزب الله، أهم وكلاء إيران في المنطقة، مقيّدا بتحرّكاته العسكرية خارج حدوده بتوازنات المعادلة اللبنانية الهشّة، فإن حساسية جواره الجغرافي لفلسطين، تفرض عليه تقييدات أخرى، إذ إن دخوله حرب غزّة بشكل مباشر يعني اندلاع حربٍ واسعةٍ في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى كونه مقيدا بالأولويات الإيرانية في هذه المرحلة. ومع شنّه هجماتٍ على الكيان الإسرائيلي من الجبهة اللبنانية، فإنها تظلّ محسوبة النتائج، على عكس جماعة الحوثي، الطرف في الحرب اليمنية، والمدعومة من إيران، فإنها أكثر تخفّفا من أي تبعات دولية وإقليمية ومحلية أيضا، بقيامها بعملٍ عسكريٍّ مناوئ لإسرائيل، ذلك أن نطاقها الجغرافي لا يتماسّ مع الأرض الفلسطينية، ما يمنحها مرونةً في التحرّك العسكري، وتنفيذ هجمات ضد مصالح إسرائيل، وأيضا هناك عامل تخفّفها من عبء الضغوط الدولية، كونها قوى محلية مارقة بالنسبة للمجتمع الدولي، وغير مشمولة في سلطة رسمية معترفٍ بها دولياً، إضافة إلى حالة الحرب في اليمن، التي تمكّنها من القيام بنشاط عسكري عابر للحدود، يعضدها تحرّكها في مجال آمن، إلى جانب الامتيازات التي راكمتها كوكيل متحرّر ومنفلت إلى حدّ كبير من التبعية الآنية لحليفها الإيراني، وأيضا أن القضية الفلسطينية استثمار متعدّد المكاسب، ومن ثم تشكّل مواجهة إسرائيل وحلفائها بنك أهداف متعدّد الأغراض بالنسبة للجماعة، إلى جانب أنه مجال حيوي بالغ الأهمية، فضلا عن المكاسب العسكرية والسياسية المتحقّقة بالنسبة لها.
استمرار الحرب على غزّة يمنح الحوثيين وسائل قوة إضافية لتهديد مصالح قوى عمياء تتشارك وتتواطأ وبلا خجل في إبادة الفلسطينيين
تدخل جماعة الحوثي المدعومة من إيران خط الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وإن كلاعب ثانوي، وذلك بتنفيذها هجماتٍ على مصالح إسرائيل وحلفائها في المنطقة، إذ إن سيطرتها على مدينة وميناء الحديدة الاستراتيجي المطلّ على البحر الأحمر، مكّنتها من فتح جبهة جانبية وحيوية وغير مكلفة لتهديد مصالح إسرائيل وحلفائها، حيث تبنّت الجماعة سلسلة من الهجمات المتعاقبة بصواريخ باليستية وأيضاً بطائرات مسيّرة، إذ أعلنت في 19 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) استيلاءها على السفينة "غلاكسي ليدر"، تبعه تبنّيها هجماتٍ صاروخية متفاوتة التأثير والنطاق، وان لم تضرّ بمصالح إسرائيل، إلا أن التطوّر المهم إعلان الجماعة، في 9 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، توسيع عملياتها العسكرية، لتشمل استهداف حلفاء إسرائيل، إلى جانب إعلانها فرض نوع من الحصار البحري على الملاحة الدولية في البحر الأحمر. وبالتالي، التهديد بمنع السفن التجارية من الوصول الى إسرائيل، وتهديدها باستمرار عملياتها حتى تُذعن القوى الدولية الموالية لإسرائيل بإيصال الغداء والدواء إلى قطاع غزّة المحاصر، تبعه إعلانها في 11 ديسمبر/ كانون الأول الحالي مسؤوليتها عن استهداف سفينة "ستريندا" التابعة للنرويج بصاروخ بحري، والتي كانت تحمل شحنة نفط متّجهة إلى إسرائيل.
وفي حين ترافق تصعيد الجماعة تهديدات إسرائيلية بالردّ العسكري على هجماتها، وإن ظلّت في سياق الضغط السياسي، أدّت هذه التطوّرات إلى تكثيف الوجود العسكري الدولي في البحر الأحمر، بحيث تعدّدت مهامّه من الرقابة على الملاحة الدولية، وتفعيل إنذاراتٍ أمنية لحلفائها في المنطقة إلى النشاط العسكري بالتصدّي لهجمات الجماعة، أي عسكرة المياه اليمنية ومضيق باب المندب، منها إعلان البحرية الفرنسية، أخيرا، إسقاط طائرتيْن مسيّرتين تابعتين للجماعة، وهو ما يعني مخاطر نقل الصراع إلى البحر الأحمر، وأيضا تبعات تدويل أزمة أمن الملاحة، ومن ثم الدفع بإنشاء وضع دولي خاص، يكرّس على المدى البعيد استمرار تجريد اليمن من سيادته على ممرّاته المائية، وعلى مضيق باب المندب، بيد أن الجماعة تخوض معركتها المفتوحة في جبهةٍ حيويةٍ مناسبة، وتحت غطاء دعمها فلسطين.
لا يبدو، في خيارات حلفاء إسرائيل للردّ على التهديدات المنطلقة من البحر الأحمر، أن عملاً عسكرياً موجّهاً ضد الحوثيين خيار مناسب في هذا التوقيت
تحتلّ مناطق نفوذها في البحر الأحمر أهمية رئيسية بالنسبة لجماعة الحوثي لإدارة جبهة جانبية ضد إسرائيل وحلفائها في المنطقة، إذ إن الممرّ المائي الذي تمرّ عبره ثلثا حركة التجارة العالمية، يجعله مجالا حيويا ملائما لتوجيه ضرباتٍ ضد مصالح إسرائيل وتهديد حلفائها، حيث قد يدفع استمرار هجماتها على السفن والناقلات النفطية والتجارية الإسرائيلية والغربية إلى تغيير خط سيرها تجنّبا لعبور البحر الأحمر، ومن ثم رفع تكلفة ملاحتها وتأمينها. ومن جهة ثانية، ومع تجميد جبهات الحرب في اليمن، واستنقاع الأزمة اليمنية، فإن تحوّل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى الواجهة الدولية، يمكن الجماعة من خلال هجماتها تصدير نفسها قوة فاعلة في إسناد المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى فرض ثقلها العسكري، ومن ثم السياسي في المنطقة، كقوة مؤيدة لفلسطين، أي من قوى الممانعة الفاعلة، ومن ثم تثبيت شعارها في العداء لأميركا وإسرائيل. ومن جهة ثالثة، يصعّد استمرار تنفيذها هجمات على المصالح الإسرائيلية شعبيتها في ظل استمرار الصمت الرسمي على جرائم الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى تأكيد هيمنتها وتأثيرها على الملاحة الدولية وتوظيفها في معركتها لاستثمار مظلومية غزّة. ومن جهة رابعة، فإن تمايز موقفها الرسمي الداعم لفلسطين، مقارنة بالقوى المحلية من خصومها التي تسيطر ولو اسمياً على بعض موانئ البحر الأحمر والتي تتبنّى موقف داعميها الإقليميين من السعودية إلى الامارات في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يجعل الجماعة في موقع الأفضلية، ما يعني تضاعف شعبيتها في مناطق خصومها، ومن ثم التأثير على معالجة الحرب اليمنية، شعبيا على الأقل، وتوجيهها لصالحها. ومن جهة خامسة، يجعل تجميد المفاوضات الثنائية مع السعودية، وتحديدا الشقّ الاقتصادي، الجماعة تراهن على استمرار هجماتها للدفع بتحريك الملفّ التفاوضي مع السعودية، وذلك بالضغط على أميركا، حليف إسرائيل ومن ثم الضغط على حلفائها الإقليميين. ومن جهة سادسة، لربط معركتها بالساحة الفلسطينية، بأبعادها الدولية، مكاسب متعدّدة بالنسبة للجماعة، محلياً، وفي نطاق مناطق سيطرتها، فإن تنفيذ هجمات تهدّد مصالح إسرائيل يضاعف شعبيتها، ويجعلها تخضع أي قوة مناوئة لها، إلى جانب حملات التبرّعات لفلسطين التي تصبّ، في الأخير، لصالح تمويل عمليّاتها العسكرية. ودوليا، تنفيذ هجمات على مصالح إسرائيل، يجعلها تتجاوز نطاق المحلية، كقوة محدودة التأثير، وتجاوز نطاق عملياتها العسكري التقليدي في تنفيذ هجماتٍ على العمق السعودي، الى قوّة مهدّدة لمصالح إسرائيل وحلفائها، ما يعني إيجاد دور جديد لها في الصراع الحالي في منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب استفادتها من تبعات تدويل ملفّ أزمة أمن الملاحة في البحر الأحمر، ما يعني تثبيت موقعها قوة تهديد متنامية، بحيث تفرض شروطها على القوى الدولية الداعمة لإسرائيل والمؤثّرة على الملفّ اليمني.
تحرص القوى الدولية من حلفاء إسرائيل على عزل المسرح اليمني عن تطوّرات الحرب في غزّة
لا يبدو، في خيارات حلفاء إسرائيل للردّ على التهديدات المنطلقة من البحر الأحمر، أن القيام بعمل عسكري موجّه ضد جماعة الحوثي خيار مناسب في هذا التوقيت. ولذلك، ربما قد تستمرّ القوى الدولية في سياسة الاحتواء لتطويق نتائج التهديدات التي تمارسها الجماعة على مصالح إسرائيل ومصالحها في المنطقة، وذلك بمضاعفة فرض عقوباتٍ على قياداتها، إلى جانب، وهو الأهم، عسكرة الممرّات المائية اليمنية، وتحديدا مضيق باب المندب، ومن ثم إعاقة أي هجومٍ أو تهديد من الجماعة، إضافة إلى خيار تغيير معادلة البحر الأحمر، عسكريا ومن ثم سياسيا، وذلك بالشروع في تأهيل قوى محلية، تحت إشراف وإسناد قوة إقليمية ودولية تفرض سيطرتها الكاملة على باب المندب، ومن ثم دفعها إلى مواجهة جماعة الحوثي مستقبلا، فضلا عن الدفع باتجاه تشكيل حلف دولي في قادم الأيام، كما أعلن عسكريون أميركيون، أخيرا، مكون من 38 دولة، من بينها الدول التي تطلّ على البحر الأحمر، والتي تتمتّع بعضها بعلاقاتٍ استراتيجية مع إسرائيل وحلفائها، ما قد يؤدّي إلى فرض واقع جديد في منطقة البحر الأحمر، وهو ما يصبّ في صالح القوى الغربية وهدفها الاستراتيجي من استثمار تهديدات جماعة الحوثي على الملاحة وتضخيمها إعلاميا، سياسيا.
وفي اتجاه آخر، تحرص القوى الدولية من حلفاء إسرائيل على عزل المسرح اليمني عن تطوّرات الحرب في غزّة، حيث تخوض أميركا من خلال الأمم المتحدة، وأيضا حلفائها الإقليميين المتدخّلين في اليمن لإيجاد تسويةٍ سياسيةٍ عاجلة تنهي الحرب في اليمن، للتفرّغ لحربها في غزّة، وأيضا لتطويق التهديد الحوثي على مصالحها ومصالح إسرائيل، ومع أن تعقيدات الملفّ اليمني قد تجعل من الصعب في هذا التوقيت إيجاد صيغة سياسية مُرضية، فإن استمرار الحرب على غزّة يمنح الجماعة وسائل قوة إضافية لتهديد مصالح قوى عمياء تتشارك وتتواطأ وبلا خجل في إبادة الفلسطينيين.