جرائم إبادة ألمانية غير منسيّة
فيما الترقّب على أشدّه، والتلهّف المشفوع بجرعة أمل كبيرة بقرب صدور حكم محكمة العدل الدولية، المتعلق باحتمال قرار احترازي مستعجل قد يوقف حرب الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزّة، ومع ارتفاع موجة التفاؤل بصدور القرار المأمول، بعد دعم (أو انضمام) مزيد من الدول الأوروبية واللاتينية إلى جانب الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا، فوجئ الرأي العام العربي، وربما الحكومات، بانضمام ألمانيا إلى جانب دولة الاحتلال ووقوفها مرة أخرى على الجانب الخطأ من التاريخ.
لم يكن هذا الموقف الألماني الصادم مفهوماً بادئ الأمر، كما لم يكن مقبولاً لدى المصدومين بهول الجريمة المستمرّة في غزّة، ولا سيما أنه صادر عن دولة أوروبية ترفع عالياً شعار حقوق الإنسان، وليس لها عداواتٌ مع العرب، أو تراث استعماري مرير في هذه المنطقة، الأمر الذي لم نجد له تفسيراً (ولا نقول تبريراً) سوى القول إن هذا السلوك الشائن ناجمٌ عن الإحساس الثقيل بالذنب، والرغبة في طلب المغفرة عن إثم جريمة المحرقة النازية، التي ارتدّت مضاعفاتها الكارثية على الشعب الفلسطيني، وعرّضته بالنتيجة النهائية لسلسلة من المآسي والمذابح، وآخرها هذه المذبحة الرهيبة في قطاع غزّة.
وهكذا بدا الهولوكوست، حسب مفاهيمنا الدارجة، القاعدة الأساسية لفهم علّة انحياز ألمانيا لصالح دولة الاحتلال، واستقرّ في وعي الأكثرية العربية أن الدعم العسكري الألماني للحرب على غزّة أول الأمر، ثم الوقوف إلى جانب الاحتلال في محكمة لاهاي لاحقاً، تحصيل حاصل لتلك العقدة التاريخية، وذلك إلى أن استُعيدت حقيقة أن ألمانيا ذات سجل حافل بجرائم الإبادة الجماعية، وأن أجداد النازيين كانوا أول من ارتكبوا جريمة الإبادة في العصور الحديثة، ليس في بولندا وأوكرانيا وروسيا فقط، وإنما قبل ذلك في ناميبيا في أوائل القرن العشرين.
بالتصريح الذي أشهرته الرئاسة الناميبية، في إطار احتجاجها على انضمام مستعمريها الأوائل للمترافعين عن جريمة الإبادة الجديدة في غزة، عرف من لم يكن يعرف أن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي قارفت جريمتي إبادة عرقية خلال القرن الماضي، وها هي تساهم اليوم، بشكلٍ غير مباشر، في مقارفة جريمة ثالثة، ما حمل بعضهم على الاعتقاد بأن للألمان في كل جريمة إبادة نصيب، حتى أن بعض الظرفاء استعادوا المثل الشائع لدى عامة الناس عن جودة الصناعات الألمانية، قائلين بسخرية هذا الموقف "دقّ الماني".
بالعودة إلى هذا الأمر غير المتداول، ارتكب الألمان، الذين حكموا تلك البلاد في جنوب غرب القارّة الأفريقية، من عام 1884 إلى 1918 (قبل أن يُسلّموها إلى دولة جنوب أفريقيا العنصرية بعد هزيمة برلين في الحرب العالمية الأولى) إن هؤلاء المستعمرين قد أبادوا بين عامي 1904 و1908 نحو 65 ألفاً من إحدى القبائل، أي بما نسبته 80% من عدد أفرادها، كما أبادوا عشرة آلاف من قبيلة أخرى، بما نسيته 50% من أبنائها، فيما أبقوا على البقية الباقية للقيام بأعمال السخرة، وكل هذا غيض من فيض جرائم فظيعة مشابهة قارفتها ألمانيا في مستعمراتها الأفريقية الأخرى، مثل تنزانيا وبوروندي ورواندا وغانا.
في البيان الاستنكاري المقتضب للرئيس الناميبي للموقف اللاأخلاقي للحكومة الألمانية، قال إن ألمانيا لا تريد التعلّم ولا استخلاص الدروس من تاريخها الرهيب، وإن عزمها على الترافع ضد جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، ودفاعها عن القتلة، يدلّ على تمسّك برلين بماضيها المثقل بجرائم الإبادة. الأمر الذي يدعونا نحن آباء الضحايا الغزيين وأمهاتهم وأشقائهم، إلى رفع القبّعات احتراماً لهذه الدولة الأفريقية الشجاعة، ويحملنا في المقابل على إعلاء الصوت احتجاجاً على التماهي مع النازيين الجدد، وإظهار السخط ضد ألمانيا، التي كانت تحتفظ، حتى الأمس، بسمعة طيبة تضاهي سمعة منتجاتها الصناعية.
ليس القصد هنا التعريض بالشعب الألماني، الذي تظاهر آلاف منه في عدة مدن تضامناً مع غزّة، ولا التذكير بذلك الماضي الأسود في شرق أوروبا أو جنوب غرب أفريقيا، ولا بالتعويضات السخيّة لدولة الاحتلال طلباً للصفح عن المحرقة النازية، وإنما الغاية التعبير عن الاستهجان الشديد لكل هذا الانحياز الألماني الأعمى إلى جانب مقترفي أول حرب إبادة تُبث بالصوت والصورة، والاستنكار الأشدّ، وهذه الاستهانة بدمنا إلى هذا الحد، وتمويت الضمير الإنساني لأمةٍ ذات مساهمات حضارية باذخة في العلوم والفنون والفلسفة والآداب والموسيقى.