جديد وثيقة المناطق الثلاث في سورية

14 ابريل 2024
+ الخط -

صدر في 8 الشهر الماضي (مارس/ آذار) إعلان مشترك بين ثلاث مناطق سورية (درعا البلد، القريا، ريف حلب الشمالي) تحت اسم وثيقة المناطق الثلاث، وهي مجموعة مبادئ يطمح المبادرون إلى أن تكون "موضع توافق وترحيب شعبي على امتداد البلاد". ليس لكل ما يمكن أن يقال بشأن هذه المبادرة أن يخفي أو يقلل قيمة مسعى أصحابها الجديرين بالتقدير الذي يستحقّه كل من ينشغل في إيجاد مخرج لائق لشعبه وبلده المنكوبين. وينطبق القول نفسه على المنضمّين تالياً إلى المبادرة التي تختلف عن عشرات ظهرت في السنوات الأخيرة في أنها الأكثر تعبيراً عن انقسام الواقع السوري.

انطلقت المبادرات السابقة دائماً من مركزية وطنية سورية مفترضة تمثلها المبادرة نفسها، حتى لو نظرت إلى المناطق والجماعات السورية بوصفها كياناتٍ قد تصل كيانيّتها، في بعض المبادرات، إلى حد اقتراح إدارات ذاتية. كانت كل مبادرة بمثابة مركز سوري مفترض يسعى إلى إعادة ترتيب سورية، وإن يقترح بعضها قدراً واسعاً من اللامركزية. وقد انعكست هذه الاشتمالية السورية في تسمية المبادرات السابقة، فمن النادر أن تبنّت مبادرة تسميةً تخلو من كلمة سورية، اسماً أو صفة. على هذا، يمكن القول إن وثيقة المناطق الثلاث تنفرد باعتماد منظورٍ آخر ينطلق من مستوىً أدنى، هو مستوى الواقع السوري الفعلي، واقع تعدّد السلطات وتباين شروط العمل السياسي بين المناطق، فتنطلق لذلك من اقتراح العمل المشترك بين ثلاث مناطق، ليس للمبادرين سلطة مهمّة في أيٍّ منها، الأمر الذي يجعل الوثيقة أقرب إلى وثيقة عهد.

بسبب انكماش الدولة الرسمية في سورية وفقدانها السيطرة الكاملة على المجال الجغرافي السوري، سنوات، صار سكّان سورية يعيشون أزمنة سياسية مختلفة باختلاف السيطرة السياسية والأمنية في المناطق، ذلك أن الانشغال السياسي للسكّان وشروط عملهم صارت مختلفة باختلاف السلطة المسيطرة في مناطقهم، الأمر الذي جعل العمل السياسي السوري في الداخل مشتتاً. المفارقة التي أنتجها هذا الواقع أن المهتمّين من السوريين في الخارج باتوا، بسبب "خارجيّتهم" وتحرّرهم من انقسام الزمن السياسي السوري، الأقدر على تمثيل عملٍ سوريٍّ موحّد. هذا ما يفسّر أن معظم المبادرات التي نتكلّم عليها تنشأ في الخارج وتبحث عن مرتكزاتٍ داخليةٍ لها.

لا تمتلك أيٌّ من السلطات القائمة في سورية القوة السياسية ولا الأخلاقية ولا العسكرية التي تسمح لها بتوحيد سورية

الانطلاق من "المناطق" هو الجديد الوحيد في الوثيقة التي يُحسَب لها الجرأة في النظر إلى الواقع السوري في عينيه. إنه واقعٌ عميق التمزّق كما لم يسبق له أن تمزّق من قبل، ويفتقد إلى أي سلطة تعلو على هذا التمزق، وتمتلك من ثم فرصة توحيد ما تمزّق.

في المرحلة التي جرى فيها تقسيم سورية رسمياً، في ظلّ الاستعمار الفرنسي، بداية عشرينيات القرن الماضي، كانت سلطة الاستعمار نفسها تستطيع توحيد سورية حين تشاء، كما استطاعت تقسيمها حين شاءت، فقد كانت تمتلك القوة فوق هذا التقسيم ومن خارجه. اليوم، لا تمتلك أيٌّ من السلطات القائمة في سورية القوة السياسية ولا الأخلاقية ولا العسكرية التي تسمح لها بتوحيد سورية.

المبادرات التي حاولت توحيد إرادة السوريين حول مركز سياسي بمبادئ ديموقراطية أو إسلامية أو بينهما، كانت تفتقد كثيراً إلى القوة المادية. حتى لو آمن السوريون بما تقول هذه المبادرات وبأصحابها، فهذا لن يفيد في التغلّب على عطالة الواقع الذي تحميه فوق ذلك سلطات محلية تحميها سلطاتٌ خارجية. لم تكن العلة في توفر المبادئ ولا في صياغة الأوراق ولا في وجود الشخصيات الوطنية المحترمة ذات الإرادة، بل في غياب الأداة وآليات العمل المحدّدة. حتى الدعوة الإسلامية الأولى لم تكن لتتمكّن وتثبت في الأرض لولا توفرها على القوة المادية، وما كان لها أن تجمع القبائل العربية حول أفكار عالمية تعلو على الانقسامات القبلية، لولا ذلك.

الكلام على "إجماع سوري مشترك" بعيد عن الواقع بعد سورية عن وحدتها

 

هل تنجح الوثيقة المذكورة في تجميع المناطق، وفي إيجاد آلية تجاذب تحتية تتغلّب على قوة المصالح المتعايشة مع الانقسام السوري؟ يتمنّى المرء أن يتفاءل، وقد يغذّي هذا التفاؤل ما حظيت به الوثيقة من اهتمام وتغطية إعلامية. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن الآلية أو الطاقة الجاذبة التي تسعى الوثيقة إلى توليدها تنطوي على إعاقة ذاتية سببها أنها تمنح، بصورة تلقائية، المناطق التي تنضمّ إلى المبادرة، ذاتية خاصةً بشكلٍ يمكن أن يولد التنافر فيما بين الذاتيات التي لا يجمعها مركز له قيمة سياسية واعتبارية، سيما أن المناطق المشاركة متباينة في الواقع إلى حدٍّ يسمح بالتنافر.

في وقتٍ يبدو أن العمل التحتي لتجميع سورية قطعة قطعة ينسجم مع تعميم السياسة ومع الإنسانية العادية، بحسب لغة الوثيقة، فإنه ينطوي على إشكالية تمثيل المناطق، بما يشبه إشكالية تمثيل أي شعبٍ أو جماعة. مثلاً، يسعى تجمع العمل الوطني في الساحل السوري، أول المستجيبين لمبادرة الوثيقة، إلى أن يمثل الساحل، بوصفه "رافداً سورياً وطنياً"، ويؤكد أن "خيارات أبناء الساحل هي نفسها خيارات الإجماع السوري المشترك". طبيعي أن في الساحل، كما في كل منطقة أخرى، من يعمل على تمثيل المنطقة بخياراتٍ سياسيةٍ أخرى لا توافق على الوثيقة، خصوصاً أن الكلام على "إجماع سوري مشترك" بعيد عن الواقع بعد سورية عن وحدتها.

يكون العمل المحلي سبيلاً مجدياً إلى الوطنية السورية حين يكون ضمن إطار، وفي تفاعل مباشر مع مؤسّسة وطنية سورية ديمقراطية حاضرة وقوية

وإذا أردنا التعليق على تجمّع أبناء الساحل، يمكننا القول إن هذا التجمّع يبتعد، في ظنّنا، عن الصواب، كلما اقتربت عبارته "أبناء الساحل" من كونها تعني "العلويين". نقول هذا، مع الثقة بنزاهة القائمين على المبادرة وتاريخهم ووطنيتهم، ولكن من باب الخشية والرأي. فما يحتاج إليه عموم العلويين هو الخروج بهم من الدائرة التي يُحشَرون فيها من كل حدب وصوب، وهي اعتبارهم ذاتاً يتنافس بعض أبنائها على تمثيلها، أو يرميها آخرون، كتلة واحدة، في خانة النظام المجرم. هذا خطأ، حتى لو ظهر للعين اليوم أن لمعظم العلويين مواقف سياسية متقاربة.

في الحقّ أن التعامل مع أي جماعة مذهبية على أنها ذاتٌ سياسية يعادل تجريدها من السياسة وتحويلها إلى أداة. ومن يحتاج إلى مثل هذا المسلك ويستفيد منه هو نظام الأسد، وليس الساعين إلى التحرّر منه. افتراض أن العلويين ذات سياسية، يكافئ عزلهم، ودفعهم إلى اختيار "الانطواء المحلي" الذي تحذر منه الوثيقة. ولا ننكر أن اللحظة التي يمرّ بها السوريون اليوم تساعد، بل تغري، من يريد، على مأسسة هذه اللحظة وحبس الجماعات المذهبية في أقفاصٍ "سياسية" على الطريقة اللبنانية والعراقية.

يكون العمل المحلّي سبيلاً مجدياً إلى الوطنية السورية حين يكون ضمن إطار، وفي تفاعل مباشر مع مؤسّسة وطنية سورية ديمقراطية حاضرة وقوية، بحيث تحمي من تبلور ذاتيّات محليّة مناطقيّة أو مذهبيّة لها من الحضور والقوة ما يتفوّق على حضور الذاتيّة الوطنية وقوّتها.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.