ثورة الجياع ثورة التغيير الجذري

15 ديسمبر 2022
+ الخط -

تشهد محافظة السويداء في سورية مظاهرات احتجاجية غاضبة، تحمل في طياتها مضامين ثورة الـ2011 وشعاراتها وهتافاتها، كما تعبر عن غضب السوريين من سوء الأوضاع المعيشية التي بلغها وطنهم المحتل، توّج هذا الغضب في دعوة ناشطي السويداء يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي جميع محافظات سورية إلى العصيان المدني والإضراب العام.

أثير الجدل بين السوريين بشأن مظاهرات السويداء واحتجاجاتها المتكرّرة، على اعتبارها متأخرّة عن مسار 2011 الثوري، أو نتيجة اعتبارها احتجاجاتٍ مطلبيةً بسيطة لا ترقى إلى مستوى ثورة 2011، كما وصفها بعضهم بـ "ثورة الجياع"، بغرض التقليل منها! يتجاهل هذا مساهمة السويداء الثورية في العام 2011، كما يتجاهل انحراف الثورة عن مسارها الشعبي، الذي خطته المظاهرات الأولى وشعاراتها الأجمل "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد" و"حرامية حرامية" و"الشعب السوري ما بينذل" و"خاين يلي بيقتل شعبه"، إذ عمّت سلوكيات النظام مجمل المناطق السورية، بما فيها الخاضعة للمعارضة السورية، بل عمّت كذلك مجمل أماكن وجود المعارضة السورية، حتى خارج سورية.

ساهمت أسباب عديدة في حرف الثورة السورية عن مسارها الثوري النقي؛ ذاتية وموضوعية، يصعب استعراضها كاملةً هنا، لذا يُكتفي بالتركيز على أهم سببين ذاتيين: غياب البنية التنظيمية الثورية، إفراغ سورية من حاضنتها الثورية الاجتماعية. يرجع السبب الأول إلى بنية النظام السوري القمعية، الذي نجح في منع النشاط والعمل السياسي في الأوساط الشعبية، عبر حصره في نخب محدودة العدد والإمكانات، مما أضعف من مكنونه النضالي وأفقده بعده الاجتماعي. ويعود هذا السبب أيضا إلى فشل النخب السياسية السورية في فهم الثورة الشعبية، إذ استسهلت قراءتها عبر اختصارها في شعار "حرّية"، الذي صدحت به الحناجر على امتداد سورية كاملةً؛ بما فيها السويداء والمحافظات الساحلية، الأمر الذي همّش سائر المطالب والدوافع الشعبية، من ضيق العيش وتوغل الفساد وانتشار النهب واحتكار الثروة، كما جسّدها حرق مراكز "سيرياتيل" وشعار "حرامية". من ذلك كله، لم تضع النخبة السورية برنامجاً ثورياً شاملاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل اكتفت بترداد الشعار الذي أطلقه الشارع "إسقاط النظام".

باتت الغالبية السورية الصامدة داخل سورية اليوم عالقة فيها، أي غير قادرة على مغادرتها، حتى لو رغبت في ذلك

نتج السبب الثاني من ممارسات النظام الإجرامية التي فاقت كل التصورات، إذ لم يكتف النظام باستخدام الرصاص الحي في قمع الثورة، بل سارع إلى ارتكاب أفظع الجرائم ضد الإنسانية بحق المتظاهرين ومدنهم وقراهم، من حصارها إلى قصفها بشتى أنواع الأسلحة الحربية، بما فيها الأسلحة الكيماوية. كما يعود إفراغ سورية من حاضنتها الشعبية الثورية إلى سبب جوهري ثان، مرتبط بالإمكانات الاقتصادية الذاتية وبالظروف الدولية في سنوات الحراك الثوري الأولى، إذ فتح وسط سورية الإقليمي؛ في سنوات الثورة الأولى، حدوده المشتركة مع سورية، الأمر الذي سهّل عملية إفراغ سورية من حاضنتها الاجتماعية، عن طريق الأردن ولبنان، وبنسبة أكبر تركيا، كما سهلت دول الاتحاد الأوروبي إجراءات اللجوء الإنساني والسياسي، لتتصاعد أعداد الهجرة غير الشرعية صوبها، خصوصاً من تركيا.

تُعزى السياسات الإقليمية والدولية الإنسانية تجاه السوريين إلى ثلاثة أسباب: الأول إنساني بحت، رد فعل على إجرام النظام بحق السوريين. الثاني اقتصادي - اجتماعي؛ خصوصا أوروبياً، من أجل تلبية متطلبات الاقتصاد من الموارد البشرية، والثالث سياسي- أمني بغرض السيطرة على المسار الثوري الشعبي، نظراً إلى مخاطره على استقرار المنطقة، وبالتالي على مصالح الدول، وبغرض منع انتقال الموجة الثورية إلى سائر دول المنطقة وربما العالم. في حين مثلت تلك السياسات طوق نجاة لنشطاء كثيرين في الحركة الثورية السورية، استهدف النظام حياتهم عبر الاعتقال والتعذيب أو القتل العشوائي أو الاغتيال.

لم يقتصر الخروج من سورية على شرائح اجتماعية صغيرة العدد، بل طاول فئات وشرائح عريضة وكبيرة، إذ تقدّر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد السوريين خارج بلدهم بقرابة الـسبعة ملايين، فضلاً عن قرابة أربعة ملايين نازح داخل سورية، ما يعني أن هناك قرابة الـ 11 مليون سوري خارج أوساطهم الاجتماعية. إذاً تمكّن قرابة سبعة ملايين سوري من مغادرة بلدهم، رغم تكاليفها الباهظة؛ خصوصاً بعد الـعام 2014، كما تمكّن قرابة مليوني سوري من متابعة المسير نحو دول الاتحاد الأوروبي، على نفقتهم الخاصة، عبر طرق اللجوء غير الشرعية والمكلفة مادّياً، والتي تصل، في حالاتٍ كثيرة، إلى أكثر من عشرة آلاف دولار للشخص الواحد.

فشلت النخب السياسية السورية في فهم الثورة الشعبية، إذ استسهلت قراءتها عبر اختصارها في شعار "حرّية"

باتت الغالبية السورية الصامدة داخل سورية اليوم عالقة فيها، أي غير قادرة على مغادرتها، حتى لو رغبت في ذلك، نتيجة شحّ الإمكانات المادية أولاً، وسياسات إغلاق الحدود الإقليمية والدولية ثانياً، أي لا يملكون ترف الاختيار بين البقاء أو المغادرة، باستثناء حالات قليلة، ممن يملكون القدرة المادية، أو أصحاب الحظ السعيد بالحصول على عقد عمل أو منحة دراسية خارج سورية، في حين فُرض على الغالبية العظمى منهم خياران لا ثالث لهما، إما التكييف مع الأوضاع السورية الداخلية، أو تغييرها, لكن ونظراً إلى سرعة تدهور الوضع السوري المعيشي والخدمي، أصبح التكيّف معه أمراً شبه مستحيل لدى الغالبية العظمى من الصامدين داخل سورية، الأمر الذي زاد من احتمالية سعيهم إلى تغيير هذه الأوضاع، خصوصاً في الأوساط الأشد فقراً، الذين فقدوا القدرة/ الرغبة على التكيف مع الوضع السوري المعيشي.

تتزايد الشريحة الاجتماعية السورية العاجزة؛ غير الراغبة، في التكيف مع الوضع السوري الراهن يومياً، الأمر الذي يعني تضخم حاضنة التغيير/ الثورة الاجتماعية، التي راكمت خبرة نضالية وسياسية نتيجة تجربة الـ 2011 الثورية، كما لا تحظى هذه الحاضنة بترف الخيارات البديلة، فلا خيار أمام السوريين اليوم سوى التكيّف مع الوضع القائم، أو الثورة على النظام والقوى المسيطرة في المناطق غير الخاضعة إلى سيطرة النظام، من أجل تغيير الأوضاع وفتح نافذة أمل صوب المستقبل.

يصح وصف تلك الثورة بـ ثورة الجوع/ الجياع أو ثورة المظلومين والمقهورين من معدمي الخيارات، لكنه وصفٌ منقوص، لا يوضح أهم سماتها، فهي الثورة الأشد ثورية وجذرية وفق دروس التاريخ البشري، أي الثورة الوحيدة القادرة على كسر الأغلال التي فرضها النظام ومعه قوى الأمر الواقع وقوى الاحتلال المتعدّدة مهما كلف الأمر من ثمن، كي تعيد للسوريين وطنهم وقرارهم وخياراتهم التي فقدوها منذ انحراف ثورتهم عن مسارها، ومنذ تمكّن الأطراف الخارجية من فرض أجنداتها وأدواتها على سورية والسوريين، فهل نشهد ذلك قريباً؟

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.