ثلاث لقطات من مؤتمر في برلين
كنتُ في برلين لحضور المؤتمر السابع والثلاثين التي تنظّمه سنوياً جماعة سانت جيديو، القريبة من الفاتيكان، والذي يشارك فيه عدد كبير من رجال الدين من مختلف العقائد. وشدّتني في هذه التظاهرة الثقافية السياسية الكبرى ثلاث لقطات معبّرة.
الأولى قول الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، عند افتتاح المؤتمر، وبشكل صريح وواضح: "بصفتي مسيحيا ملتزما، هل يمكن رفض تقديم الدعم العسكري للضعفاء بحجّة عدم إطالة الحرب؟". جاء ذلك في سياق تبرير موقف بلاده من النزاع المسلّح الروسي الأوكراني. لقد وجد شتاينماير نفسه أمام جمهور متنوّع من رجال الدين، مختلفين في عقائدهم، جاءوا من دول متعدّدة لحضور المؤتمر. كانت رسالة المؤتمر تتمحور حول كيفية إنقاذ السلام في العالم، وفي أوروبا تحديداً، وبالخصوص ألمانيا الاتحادية التي تضرّرت اقتصاديا بعد أن كانت بمثابة القاطرة التي تجرّ وراءها معظم دول القارّة الأوروبية.
يتمثل التحدّي الأساسي الذي واجهه الرئيس الألماني في كيفية إقناع الحاضرين بأنّ الانخراط في هذه الحرب وسيلةً ضرورية لتحقيق السلام، وأن ذلك لا يتناقض ولا يتعارض مع العقيدة المسيحية التي تقوم فلسفتها على اللاعنف، خصوصا أنّ في الجهة المقابلة، وتحديداً في روسيا، يبني الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومعظم السياسيين، وغيرهم، قرارهم الخاص بغزو أوكرانيا بكونه دفاعاً عن المسيحية الأرثودكسية من التهديد الأميركي عبر حلف شمال الأطلسي.
يحتاج صنع السلام أحياناً، أو في الغالب، إلى انخراط فعلي وقوي في الحرب ذاتها، وقد يجرى استعمال أسلحةٍ تكون أشدّ فتكاً من التي يملكها الطرف المقابل، ويؤدّي ذلك إلى تقديم تضحيات أكبر من أجل تعديل موازين القوى، وإجبار العدو على التراجع، والقبول بالتفاوض. إنّه قانون عام يحكُم علاقات الصراع بين الدول والجماعات. يقول القرآن الكريم "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة"، باعتبار ذلك شرطا سابقا لبدء الصراع على الأرض حماية للناس والأرض والثروة، وأيضاً لضمان السلم وتحقيق السلام، فالضعفاء يدوسهم الأقوياء من دون رحمة. وهو ما أشار إليه الرئيس الألماني ضمنياً، عندما اعتبر أنّه في حال تُرك الشعب الأوكراني يواجه مصيرَه وحده، بحجّة أنّ المسيحية دين سلام، فإنّ النتيجة العملية ستكون تحقيق أهداف الكرملين. والخلاصة أنّ الأديان والحروب والسلام قد تحكمها معادلاتٌ معقّدة تجعلها مترابطة ومتداخلة بشكل قوي.
وتتمثل اللقطة الثانية المثيرة في تخصيص جلسة للحديث عن الجدران التي تُبنى من أجل الفصل بين الناس، انطلاقاً من تعلّات واهية، وجرى استعراض عدّة حالات وتجارب. الغريب أنّ المتحدثين لم يشيروا جميعاً، من قريب أو من بعيد، إلى جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل لتطويق الفلسطينيين وتمزيق وحدتهم الجغرافية. وهو مثال صارخ على العدوانية والتمييز بمختلف أشكاله وألوانه. وكادت الجلسة أن تنتهي بهذا الشكل لولا تدخّل الزميل والصحافي التونسي فب قناة الجزيرة محمد كريشان، الذي كان حاضراً ضمن الجمهور، ليصحّح الصورة، وتساءل عن دلالة غياب فلسطين. وكانت المفاجأة أنّ أحد المشاركين على المنصة أيّد كريشان في ما ذهب إليه، وأكّد أنّ ما يجري في فلسطين تجاوز كلّ الحدود. وكان ذلك موقفاً شجاعاً من هذا المثقف، لأنّ انتقاد إسرائيل داخل ألمانيا مكلف جداً لمن يقوم بذلك.
تتجسّد اللقطة الأخيرة في صبية لم تتجاوز سنها 18 عاما، من أفغانستان، شاركت في جلسة الافتتاح وبحضور كبار الشخصيات، واستعرَضت شهادة مؤثرة. ويوم استعادت حركة طالبان العاصمة كابول، خافت البنت من أن تُحرم من حقها في الدراسة. وبتشجيع من والدها هربت، ولجأت إلى أحد الممرّات الإنسانية التي تقيمها سانت إيجيديو كلما اندلع نزاع مسلح. هكذا تمكنت من الخروج، وأتقنت اللغة الإيطالية، والتحقت بالجامعة، وأصبحت شاهدةً على ما يجري في بلادها من تعسّف وتنكيل بالنساء اللاتي حُرمن من التوجّه إلى المدارس وأماكن العمل. وذلك كله باسم الإسلام، وهو منهم بريء. يحصل هذا في لحظة تاريخية سجّلت فيه المرأة حضوراً قوياً في العالم.