"تيك توك" ... أو أفول أميركا المفلسة

06 ابريل 2023
+ الخط -

تحتدم الحملة على تطبيق "تيك توك"، وتتّسع الجبهة الرافضة له من أميركا وكندا إلى أوروبا ونيوزيلندا، لتدخل ساحة الحرب الغربية ضد الصين ومنتجاتها؛ حرب تستند إلى إشاعات مفادها بأن "تيك توك" تملكه "شركة صينية" قد تجمع بياناتٍ شخصية عن المستخدمين الأميركيين، بما في ذلك موقعهم وحركتهم وترسلها إلى الصين، بما يسمح لبكين بالتجسّس على موظفي الحكومات الغربية، أو توظيفها لغرض الدعاية وترويج معلومات مضللة.

ما زال الإعلام الأميركي والأوروبي يروّج هذه الإشاعات نقلا عن السياسيين، من دون أن يكلّف نفسه عناء التأكّد من صحتها، رغم أن كبار موظفي "تيك توك" قد مثلوا أمام لجان الكونغرس عدّة مرات، وأدلوا بشهادات تفنّد جل هذه المزاعم. وفي أول ظهور له أمام النواب الأميركيين، خضع المدير التنفيذي لتيك توك، السنغافوري شو زي تشيو، لاستجواب لجنة الطاقة والتجارة في الكونغرس يوم 23 الشهر الماضي (مارس/ آذار). نسف تشيو كبرى الأكاذيب التي نُسجت عن "تيك توك"، لكنه لم يجد آذانا صاغية داخل القاعة أو خارجها.

من أهم الحقائق اللافتة التي أدلى بها تشيو أن الشركة الأم، بايت دانس، لم تعد صينية منذ مدّة، فبعد أن أسّسها رجال أعمال صينيون، انفتحت وتطوّرت إلى شركة خاصة دولية، تعود ملكية 60% منها إلى مستثمرين دوليين، مثل "بلاك روك" و"جنرال أتلنتيك" و"سيكويا"، ولا تزيد النسبة التي يملكها مؤسّسوها الصينيون عن 20%، بينما يملك الـ 20% المتبقية موظفو الشركة بمن فيهم آلاف الأميركيين. وأوضح تشيو أن الشركة تديرها فرق تنفيذية في لوس أنجليس وسنغافورة، حيث مقرّاها الرئيسيان، وتتوفّر الشركة على مكاتب أخرى عبر العالم، لا يوجد أحدها في الصين.

ودحض المدير التنفيذي مزاعم الأمن القومي، موضحا أن كل بيانات مستخدمي "تيك توك" في أميركا يتم تخزينها في البنية التحتية للتخزين السحابي لشركة "أوراكل" الأميركية. وخاض أيضا في تفاصيل أخرى توضح أنه لا سبيل للحكومة الصينية إلى الوصول إلى بيانات المستخدمين داخل أميركا، وأكّد أن الشركة لم تمدّ قطعا السلطات الصينية بأي بيانات، وأنه لم يسبق للأخيرة قط أن طلبت الولوج إلى بياناتٍ كهذه، وحتى لو فعلت، فإن تخزينها يوجد اليوم تحت سيطرة شركات أميركية.

استمرّت الجلسة خمس ساعات تعرّض خلالها مدير "تيك توك" إلى وابل من التهم غير القابلة للمراجعة من نواب جمهوريين وديمقراطيين. كانت الجلسة أقرب إلى حوار الطرشان منها إلى جلسة استماع، إذ بدا المدير التنفيذي لتيك توك وكأنه يحاور الحائط، أمام اتهاماتٍ ردّدها النواب من دون الإصغاء له، كقول النائبة مكموريس روجرز: "أقول للأميركيين الذين يشاهدوننا اليوم، اسمعوا: تيك توك سلاح صنعه الحزب الشيوعي الصيني ليتجسّس عليكم، وليتلاعب بما تشاهدونه ويستغل الأجيال المقبلة".

تسييس واشنطن مشكلة اقتصادية كالتي بشأن "تيك توك" ينمّ عن خوفها من فقدان الهيمنة على العالم السيبراني

الحقيقة أن ذنب الصينين أنهم ابتكروا في عام 2016 وسيلة تواصل اجتماعي ناجحة تعتمد على الفيديوهات القصيرة، أصبحت في ظرف بضع سنوات تنافس أكبر وسائل التواصل الاجتماعي الأميركية، حيث يستخدمه شهريا أزيد من مليار شخص عبر العالم، بمن فيهم 150 مليون مستخدم داخل أميركا، يمثلون 10% من مستخدميه في العالم، وحوالي 25% من إجمالي المشاهدات في العالم. من تابع أزمة "تيك توك" يدرك أن لا علاقة لها بادّعاءات الأمن القومي وخصوصية المستخدمين التي ينتهكها "فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام" وغيرها من التطبيقات الأميركية، من دون أن يحرّك الكونغرس ساكنا.

تتعلق الحملة على "تيك توك" برغبة أميركا في السّطو على اختراع صيني، وحين يتعلق الأمر بالصين، فإن سياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تواصل ما بدأته إدارة سلفه دونالد ترامب. فمن قبل حوالي ثلاث سنوات، هدّد ترامب بحظر "تيك توك" إذا فشلت "مايكروسوفت" أو شركة أميركية أخرى في شراء التطبيق. وها هي إدارة بايدن، بعد أن نجحت في حظر "تيك توك" على هواتف الموظفين الحكوميين، تطلب هي الأخرى أن يسحب التطبيق نفسه خارج شركة بايت دانس، وأن يباع لشركة أميركية، أو يواجه حظرا شاملا في أميركا.

تسييس واشنطن مشكلة اقتصادية كهذه ينمّ عن خوفها من فقدان الهيمنة على العالم السيبراني، وفقدانها الثقة في قدرة الشركات الأميركية على المنافسة الحرّة وابتكار وسيلة تتفوق على "تيك توك". تطرح أزمة هذا التطبيق اليوم مشكلة المنافسة الحرّة، حجر الزاوية في النظام الرأسمالي الذي ما زالت واشنطن تفرض تعميمه على جل الدول رغم عيوبه وتصدّعاته. فلقد رأينا كيف أصبحت الدول الغربية، عبر بنك الاحتياطي الفيدرالي ونظرائه من البنوك المركزية العالمية، تتدخل بقوة وبسرعة فيما يطلق عليه الأميركيون "اشتراكية للأغنياء فقط"، بمنعها البنوك المُفلسة من الإفلاس، مُغيّرة بذلك القواعد المصرفية الرأسمالية الصّرفة التي تستدعي خضوع البنوك لمنطق السوق. ورغم ذلك، يعتبر الاقتصادي البارز، نورييل روبيني، الذي تنبأ بأزمة 2008، من الناحية التقنية، أن مئات البنوك الأميركية قد أفلست كليا بالنظر إلى القيمة الحقيقية لرأسمالها، والآتي أعظم.

مشكلة أميركا أنها لا تملك القوة الاقتصادية التي تنسبها لنفسها، ولا تحتلّ مركز الصدارة في التنافس الاقتصادي

مشكلة أميركا أنها لا تملك القوة الاقتصادية التي تنسبها لنفسها، ولا تحتلّ مركز الصدارة في التنافس الاقتصادي الذي تمنحه إياها مؤشّرات دولية عديدة منحازة لها، حسب الخبير الأميركي روبرت أتكينسون، رئيس مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، وهي هيئة بحثية مقرّها واشنطن. ويرى هذا الخبير أن "مؤشّر التنافس العالمي" الذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، و"مؤشّر تصنيفات التنافسية العالمية" للمعهد الدولي للتنمية الإدارية، و"مؤشّر القدرة التنافسية للتصنيع العالمي"، الذي ترعاه الشركة اليابانية ديلويت لمراجعة الحسابات، وغيرها، تحابي أميركا وتمنحها مرتبات ممتازة في تصنيفاتها، رغم أنها لا تقيس حقًا القدرة التنافسية الدولية. ويعزو ذلك إلى التعريف الخاطئ لمفهوم التنافسية، واعتماد هذه المؤسّسات على مؤشّرات ذات تأثير ضئيل على قياس القدرة التنافسية، واعتمادها المفرط على استطلاعات الرأي.

ويرى أتكينسون أن تقييم التنافسية الدولية ينبغي أن يعتمد على مؤشّرات تقيس عاملين رئيسيين: قيمة العُملة والميزان التجاري الذي يستثني الموارد الطبيعة، كالنفط والغاز، لأنها ليست سلعا مصنّعة. ونظرا إلى العجز المُهول الذي يعرفه الميزان التجاري الأميركي الذي بلغ 948.1 مليار دولار السنة الماضية، فقد احتلت أميركا المرتبة 91 من أصل 160 دولة في تصنيف الميزان التجاري كحصة من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2021. ويستغرب أتكينسون من عدم تأثر الدولار بارتفاع العجز التجاري سنوات، إذ تساوي قيمة هذه العملة في عام 2020 تقريبا قيمتها في عام 1997، رغم أن العجز التجاري كحصة من الناتج المحلي الإجمالي كان أكبر بكثير في عام 2020، بما يوحي بتلاعب في تقييم هذه العملة.

ويرى أتكينسون أن مؤشّر هاميلتون الذي يصدر عن المؤسّسة التي يرأسُها، هو أفضل مؤشر للتنافسية الدولية، لكونه يقيس حصص الدول والمناطق العالمية من ناتج الصناعة المتقدّمة نسبةً إلى حصصها المتغيرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو يقيس ثماني صناعات متقدّمة: الأدوية؛ المنتجات الطبية والكيميائية والنباتية؛ المعدات الكهربائية؛ الآلات والمعدات؛ معدات السيارات ومعدات النقل الأخرى؛ الحاسوب والمنتجات الإلكترونية والبصرية؛ وتكنولوجيا المعلومات وخدمات المعلومات. وهنا أيضا، تعرف قدرة أميركا على المنافسة في الصناعات المتقدمة تراجعا ملحوظا، إذ تحتلّ حاليا المركز 23 من أصل 63 مصنعة تتوفر منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على بياناتها، مُسجّلة بذلك تراجعا بنسبة 3.4% بين 1995 و2018، ما يجعلها تحتل المرتبة 43 من أصل 63 دولة خلال هذه الفترة.

تروي حملة "تيك توك" قصة أفول أميركا المُفلسة التي قد تحرق الأخضر واليابس من أجل البقاء والهيمنة على العالم

يخلُص أتكينسون إلى أن الاقتصاد الأميركي فقد منذ مدّة مركز الصدارة في التنافسية العالمية، وأصبح خلف دول عديدة متقدمة، وأن ريادته الحديثة في صناعة تكنولوجيا المعلومات لا يغيّر هذا الوضع. يبدو تقييم أتكينسون لطيفا مقارنة مع اقتصاديين مستقلين آخرين، مثل الخبير الاقتصادي الأميركي مايكل هدسون الذي يصف الاقتصاد الأميركي بـ"الربوي" و"الريعي"، منذ حلّت "الرأسمالية المالية" محلّ "الرأسمالية الصناعية". ويشبّه هدسون أميركا اليوم بإقطاعيي الأمس، لكونها تقتات على تحصيل الرسوم، والفوائد والإيجارات والاحتكارات الاقتصادية، بدلاً من التحكم في عملية الإنتاج حسب قواعد المنافسة الحرة. ويرى هدسون أن ما تسعى إليه واشنطن، من خلال هجومها على "تيك توك" للاستحواذ على التطبيق، ما هو إلا محاولة احتكار براءات اختراع الشّركة لتتسنّى لها الهيمنة الكاملة على قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي ما زالت تسيطر عليه شركاتها، على عكس القطاعات الصناعية، فبعد أن فكّت ارتباط الاقتصاد الأميركي بجلّ الصناعات المتقدّمة، أصبحت الرأسمالية المالية الأميركية تعيش على "أمولة الاقتصاد"، أي على القروض والرهون العقارية، ومدفوعات الفائدة والديون الخارجية التي تثقل بها كاهل الدول المُقترضة، وحقوق وبراءات اختراع في القطاعات التي لم تعد تملك فيها القدرة على الإنتاج والمنافسة العالمية.

ما تتعرّض له "تيك توك" اليوم لا يختلف كثيرا عما تعرضت له شركة هواوي الصينية من حظر وقيود فرضتها عليها إدارة ترامب في سوق الهواتف الذكية ومعدّات الشبكات. لكن سياسة الحظر والعقوبات الأحادية قد لا توقف مسيرة الصين وهي تمضي، من خلال مجموعة البريكس، في تأسيس نظام اقتصادي عالمي، يكسر هيمنة الدولار على الاقتصاد الدولي، ويتيح لدولٍ تعتبر صاحبة أسرع نمو اقتصادي، فرصة التقدّم بدعم البنك الآسيوي، بعيدا عن البنك الدولي وباقي مؤسسات النظام المالي الذي تهيمن عليه واشنطن وحلفاؤها. ... تروي حملة "تيك توك" قصة أفول أميركا المُفلسة التي قد تحرق الأخضر واليابس من أجل البقاء والهيمنة على العالم، بقوة أسلحة الدمار الشامل.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري