تيار يميني يثير ذعر الفرنسيين

13 ديسمبر 2021
+ الخط -

يغيب، في النقاش الفرنسي المشتعل على مشارف الانتخابات الرئاسية، التفكير في الانعكاسات التي تتركها الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا على الفرنسيين من أصول غير فرنسية، وبصورة خاصة على المسلمين منهم، حين تغدو المغالاة في التشكيك بهم وبولائهم وانسجامهم مع قيم الجمهورية، وسيلةً مفضلةً للطامحين إلى الرئاسة. وحين يكون التنافس على ابتكار الوسائل السياسية والقانونية والأمنية للحدّ من مخاطرهم المفترضة التي توصف ليس فقط بأنها أمنية، بل ومخاطر حضارية وهوياتية، أكثر من التنافس على قضايا أساسية، مثل الطاقة والقدرة الشرائية والبيئة والصحة والتعليم. يمكن أن نتخيّل الموقف الذي سوف يجد الفرنسي المسلم نفسه فيه، وسط هذا الجو من النبذ الصريح أو المغلف بالكاد، الذي تصنعه آراء غالبية أصحاب الحملات الرئاسية وأفكارهم وبرامجهم. هذا يدفع إلى الشعور بالاغتراب عن البلد.
يتكلم الطيف اليميني الفرنسي الذي بات واسعاً ليشمل حوالي ثلثي المشهد السياسي كما نقرأ، عن المهاجرين باعتبارهم مشكلة أساسية، ويبالغ المرشّحون في الأرقام ويتبارون في وضع السياسات التي تحدّ من الهجرة، وصولاً، عند أكثرهم انغلاقاً، إلى اقتراح منع لم شمل العائلات وحتى إلى التفكير ببناء الجدران "لولا أن الحدود طويلة". هذا الموقف الانغلاقي والعدائي تجاه الخارج، ينطوي، في عمقه، على موقف انغلاقي مذعور وعدائي تجاه الداخل، تجاه الفرنسيين من غير أصل فرنسي، ولا سيما منهم المسلمين، فالموقف من الهجرة مترادف كتفاً بكتف مع الموقف من الإسلامية (Islamism).
الخارج الذي يشكّل دريئة الرفض الرئيسية هو خارج إسلامي بالدرجة الأولى. والطاقة التي يستمدّها هذا الرفض للخارج، والذي بات يشكّل برنامجاً انتخابياً كاملاً، مستمدّة أساساً من رفض المسلمين الذين في الداخل. هذا ما لا يخفى على هؤلاء، وإنْ كان ثمّة نسبة غير قليلة منهم تندرج في التيار الانغلاقي نفسه، بما لا يقبل التفسير سوى بوصفه ضرباً من كره الذات الذي يعود إلى سيطرة إسلام سياسي انغلاقي هو الآخر، وعنيف إلى ذلك، بما يجعل المسلم تحت عبء نظرة مشكّكة أينما كان في العالم.

يشكو اليمينيون المذعورون على "الهوية" الفرنسية من نقص اندماج الفرنسيين غير الأصلاء، فيخوضون حملة "عدائية"

التصوّر أن مشكلة فرنسا تأتي من الخارج، والدعوة إلى الانغلاق بهذا الداعي، للحفاظ على فرنسا، أو "لتبقى فرنسا فرنسا"، حسب تعبير إيريك سيوتي، الجمهوري اليميني المتطرّف الذي خسر في الجولة الثانية من الانتخابات الحزبية في الرابع من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أمام فاليري بيكريس التي أصبحت، بالتالي، أول امرأة تصل إلى أن تكون المرشّحة الرئاسية للحزب الجمهوري، نقول إن هذا التصوّر، ووضعه في العمل السياسي، يقود إلى خلخلة تماسك المجتمع الفرنسي، هذا في حين يحاول أصحاب التصوّر المذكور البروز على أنهم مرشّحو إنقاذ فرنسا. بكلام آخر، يشكو اليمينيون المذعورون على "الهوية" الفرنسية من نقص اندماج الفرنسيين غير الأصلاء، فيخوضون حملة "عدائية"، من شأنها، في الواقع، صد الاندماج، أو حتى عكس الاندماج المتحقق وإبطاله، ودفع المسلمين الفرنسيين إلى الانكماش والتكتل وتعزيز قواسمهم المشتركة في رد فعل دفاعي بديهي. هؤلاء الساعون وراء المزيد من الدمج، هم في النتيجة الأضداد المباشرون للاندماج.
إذا كان الاندماج (intégration) يعني الالتزام بقوانين البلد واحترامها والانخراط في حياته السياسية والاقتصادية والثقافية، فإن مسلمي فرنسا مندمجون بما لا يقل عن غيرهم، بمن فيهم الفرنسيون الأصلاء، فهم موجودون وفاعلون في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، لكن المشكلة الحقيقية للهوياتيين الفرنسيين المذعورين على الهوية والحضارة من خطر "إحلال كبير"، ليست في اندماج الفرنسيين "الناقصي الفرنسية"، بل في وجودهم ذاته.
يقال إذا أردت معرفة النيات الحقيقية لتيار سياسي ما، فعليك الإصغاء إلى أقل أتباعه ذكاء. في هذه الحالة، علينا الإصغاء إلى إريك زيمور الذي يطالب الفرنسيين غير الأصلاء (وهو منهم بالمناسبة) بالانصهار (assimilation)، الذي يعني، في فهمه، أكثر من غسيل دم. إنه يعني التماثل الكامل حتى بالأسماء (يعيد هذا إلى الأذهان سياسة بعثية، عُصابية هي الأخرى، تجاه أسماء أبناء القومية الكردية في سورية). وهذا يعني في عمقه موت الحضارة التي يظنّ الكاتب القلق على الحضارة، أنه يحميها. هذا الرجل المذعور يخاف حتى من الأسماء الأولى للمواطنين، فكيف باختلاف آرائهم وأفكارهم وعقائدهم... إلخ.

أن تكون مسلماً لا يعني فقط أن تكون ناقص الفرنسية، بل يعني أن تكون خطراً على "الحضارة الفرنسية"

عندما تَحركَ القاع الفرنسي في احتجاجات "السترات الصفراء"، لم يكن موضوع الهجرة أو الإسلامية شاغلاً أو مصدر قلق للمحتجّين، انصبّ غضب المحتجين على الطبقة السياسية التي تميل أكثر فأكثر إلى التشابه، وتصبح أكثر فأكثر كتيمة في وجه إرادة العامة. بعد أن تراجعت هذه الحركة الشعبية ضد الطبقة السياسية، برزت نخبةٌ يمينيةٌ ذات منظور هوياتي مذعور تبث الذعر في المجتمع. أي أن الذعر الهوياتي الحالي في فرنسا صناعة نخبوية، يجري تسويقها إلى العامة بدأبٍ عبر وسائل الإعلام. توحي النخبة الهوياتية للفرنسيين بأنهم يواجهون غزواً من جيش غير نظامي، زيّه هو "الجلباب"، في إشارة إلى المسلمين. وللكسب في صناديق الاقتراع، تستثمر هذه النخبة في صناعة الخوف، مستفيدة من أحداث إرهابية متناثرة يجري الاستثمار فيها لإثارة الرعب. هذا خير سبيلٍ لصد القاع الفرنسي عن التوجه ضد طبقة سياسية لا تتحسّس همومه كما ينبغي، ولتحويل انتباه هذا القاع، عبر بثّ الرعب وتحريض عصب الهوية، إلى "الغزو" الداخلي من الإسلام، و"الغزو" الخارجي من المهاجرين.
أن تكون مسلماً لا يعني فقط أن تكون ناقص الفرنسية، بل يعني أن تكون خطراً على "الحضارة الفرنسية". المشكلة في الإسلام، الإسلام لا يتوافق مع الجمهورية، هكذا يقول المعبِّر، الأقل مهارة سياسية، عن هذا التيار. عندما تكون المشكلة في الإسلام، فإنها تكون حكماً في معتنقيه بوجه عام. هذه المقدّمة تقود إلى إحدى نهايتين، إما طرد ملايين المسلمين، وما قد ينتج عن هذا من صراعاتٍ داخليةٍ قد تصل إلى حربٍ أهلية، أو غسيل العقيدة على الطريقة الصينية مع مسلمي الإيغور، وهذا بدوره، في بلدٍ مثل فرنسا، سبيل إلى حرب أهلية.
النتيجة الأكيدة للهوس الهوياتي لليمين الفرنسي اليوم حرف الصراع السياسي في فرنسا من كونه صراع فئاتٍ مهمّشة ومفقرة ضد طبقة سياسية كتيمة، إلى كونه صراعاً هوياتياً خطيراً فضلاً عن عبثيته.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.