تونس وميراث بورقيبة

10 ابريل 2023

تمثال بورقيبة في العاصمة تونس (1/6/2016/فرانس برس)

+ الخط -

مرّت هذه الأيام ذكرى رحيل الرئيس الأول للجمهورية التونسية، الحبيب بورقيبة، وهي مناسبة يحرص رؤساء البلاد منذ ثورة 14 يناير (2011) على إحيائها سنويا، وبصورة تدفع إلى التساؤل عن هذا الحرص على التمحك بصورة بورقيبة ومحاولة ادّعاء الوصل به بصور مختلفة، فما طبيعة الميراث السياسي الذي خلّفه بورقيبة، وجعله يحظى بأشكال من التمجيد أو على الأقل بنوع من الحظوة لم ينلها غيرُه من القادة التاريخيين للبلاد التونسية؟
كان بورقيبة نموذجا للزعيم الذي عاش مراحل الحياة بتقلباتها المختلفة طوال القرن العشرين الذي عايشه من بدايته إلى نهايته (ولد في 3 أغسطس/ آب 1903 وتوفي في 6 إبريل/ نيسان 2000)، فهذا الرجل الذي صعد إلى أعلى مواقع السلطة وتمتّع بصلاحيات شبه إلهية في حكم البلاد أمضى سنوات عمره الأخيرة منبوذا ومتروكا لحاله، وقد انفضّ عنه جميع الذين كانوا حوله زمن حكمه، بعد أن انقلب عليه الشخص الذي وثق به، وكان أقرب المقرّبين إليه، زين العابدين بن علي الذي عندما جاء إلى السلطة اثر انقلاب 7 نوفمبر (1987) وجد أن بورقيبة طبع البلاد بجملة من الخصائص، حيث كان حريصا على أن تكون تونس أشبه بملكية خاصة تحمل ملامح زعيمها المطلق. وهكذا ألغى بورقيبة متعمدا كل صفحات التاريخ السابقة على وصوله إلى السلطة، واستبعد كل الشخصيات ذات الدور الوطني، حتى من كانوا رفاق درب له أو من المقرّبين منه في لحظة ما.

تونس الحديثة نتاج عوامل مختلفة، ولا يمكن اختصار تاريخها في شخصٍ بعينه

الغريب أن بن علي عندما وصل إلى الحكم كان حريصا على محو أثر بورقيبة وإضعاف حضوره التاريخي، ولعل من مكر التاريخ وحيلته أن الشخص الذي اعتمد بورقيبة عليه لتثبيت أركان حكمه في سنواته الأخيرة كان الأحرص على تقويض ميراث بورقيبة، فكان أن أزال كل تماثيل بورقيبة وصوره في الساحات العامة على امتداد الجغرافيا التونسية، وتخلى عن كل ما يمكن أن يذكّر الناس به، بما فيها العملة وطوابع البريد، متوّجا ذلك كله بالمعاملة السيئة التي لقيها بورقيبة في أيامه الأخيرة، وهو يعاني العجز والمرض وقلة الحيلة في أحد البيوت في مسقط رأسه المنستير، من دون أن يجرؤ أحدٌ على انتقاد وضع بورقيبة، بمن فيهم الذين أصبحوا يتمحكّون بشعارات البورقيبية بعد خلع بن علي.
أعيد الاعتبار لبورقيبة بعد نجاح ثورة 2011، بل وتحوّل إلى أداة للمزايدة السياسية والمبالغة في تضخيم دوره، إلى درجة رفعه إلى مقام فوق بشري. وكان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي من أكثر المستفيدين منه في تلك المرحلة، حيث حاول أن يتشبّه به، وأن يستعيد أسلوبه في الحديث، وحتى مظهره الخارجي، مبديا حرصه على إعادة تماثيل بورقيبة إلى الشوارع، وتكريمه بشكل مبالغ فيه أحيانا. ولم يكن السبسي وحده من حاول استعادة البورقيبية، بل ظهرت أحزاب كثيرة تبنّت هذا الاتجاه، وحاولت إيجاد ما يمكن تسميتها الأيديولوجيا البورقيبية، لا بوصفها نهجا في الحكم فحسب، بل ونمطا مجتمعيا أيضا، رغم أن تونس الحديثة كانت نتاج عوامل مختلفة، ولا يمكن اختصار تاريخها في شخصٍ بعينه.

ميراث بورقيبة، رغم أهميته في مجالات مختلفة، رسّخ فكرة الحكم الفردي

من الطبيعي أن يكون هناك تأثير واضح لشخصيةٍ ظلت تحكم البلاد ثلاثين سنة من دون رقيب أو حسيب. ولم يكن بورقيبة غريبا عن زمانه، من حيث وجود نماذج مختلفة لأنظمةٍ قامت على عبادة الفرد، سواء أنور خوجة في ألبانيا أو هيلا سيلاسي في إثيوبيا أو كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية. ولكن هذه التجارب، على اختلاف نظمها وألوانها العقائدية ومواقعها الجغرافية، لم تقم على القوة فحسب، وإنما على استمرارية جامدة في المفاهيم والعقائد التي تشكّل الأيديولوجيا الرسمية للدولة في تلك الحقبة من التاريخ. أما في النموذج البورقيبي فقد تعاقبت الاشتراكية والليبرالية والتعدّدية، واستمرّ بورقيبة حاكما مطلقا، مضحّيا بعشرات المسؤولين قرابين لكل مرحلة، فجوهر البورقيبية هو السلطوية المطلقة واستخدام أمثل السبل للاستمرار في الحكم من دون النظر إلى العواقب أو الكوارث التي تخلّفها الخيارات المتناقضة والقرارات المتضاربة. 
ولم يكن غريبا استحضار السياسيين الراغبين في تبرير الحكم الفردي والنظام المطلق تاريخ بورقيبة، فميراثه، رغم أهميته في مجالات مختلفة، رسّخ فكرة الحكم الفردي. وكان يؤمن بأن الديكتاتورية ضرورية لقيادة شعوب غير ناضجة وغير قادرة على إدارة شؤونها بنفسها بسبب قصورها عن إدراك مصالحها. والكارثة اليوم في من يحاول استعادة هذا الميراث السياسي البائس، وتبرير حكم الفرد والتعامل مع الشعب بوصفه يحتاج الوصاية، وهو ما يجعل الحاجة إلى التحرّر من هذا الميراث الأبوي التعيس مطلبا ملحّا إذا أراد الشعب التونسي ونخبته الحقيقية بناء دولة حديثة متقدّمة بعيدا عن الشعارات الشعبوية التي أثبتت التجارب فشلها وعدم جدواها.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.