تونس والاتحاد الأوروبي والهجرة

09 أكتوبر 2023
+ الخط -

منذ تصريحات الرئيس التونسي، قيس سعيّد، عن المهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول جنوب الصحراء الأفريقية، 21 فبراير/ شباط 2022، طرحت مسألة الهجرة وعلاقات تونس مع الاتحاد الأوروبي بشكل غير مسبوق. لم تمرّ التصريحات من دون أن تثير جدلا صاخبا، في الداخل والخارج. قامت على ثالوث أركان جلها أمني: الهجرة وفاق إجرامي، إنها مؤامرة تحاك على هوية تونس العربية الإسلامية، لن تكون تونس أرض توطين لهؤلاء المهاجرين. لم يخل الخطاب من تلميحاتٍ رأى بعضهم فيها نفخا في مشاعر الخوف والكراهية تجاه المهاجرين، وهي مخاوفُ تعزّزت، حين حاولت رمي المهاجرين بأعمال عنف وسلب. حاولت السلطات التونسية أن تخفّف من الأصداء، وسعت عبر  مبادرات الرئيس ذاته، قيس سعيّد، أو دبلوماسيته للتخفيف منها، وتوضيح ما سمّته الالتباسات والتوظيفات الخبيثة لتصريحات الرئيس، كما قامت حملة إعلامية تولّتها الوزارات، من أجل تبديد تلك الصورة التي دانتها منظمات دولية كبرى. زار الرئيس مدينة صفاقس، وهي التي احتضنت العدد الأكبر من المهاجرين، واعتبر، في خطاب توجّه به إلى المهاجرين، وكان يتوسّط عددا منهم، بأنهم ضحايا نظام اقتصادي غير منصف،  واعتبرهم إخوة للتونسيين، لكنه شدّد، في الوقت نفسه، على ضرورة احترام سيادة تونس وقوانينها.

الجزائر وليبيا ظلّتا ترفضان إدخال المهاجرين، حين يتم اقتيادهم إلى المناطق الحدودية

ظلّت المشكلة على الأرض تراوح مكانها: تدفّق الهجرة، تارة تتراجع وتارة ترتفع إلى حد أن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية وحدها سجلت، أخيرا، وصول ما يزيد عن 17 ألف مهاجر في أقلّ من يومين، وهو عدد قياسي لم تسجله الجزيرة منذ عقود، وكثيرون من هؤلاء قادم من تونس وليبيا. أما ممارسات السلطات التونسية فقد عرفت تعثّرا كبيرا: صعوبة ترحيل هؤلاء  إلى أوطانهم بحكم صعوبة تحديد هوياتهم، علاوة على معضلة تكاليف ترحيلهم برّا أو أرضا من دون إغفال عدم تعاون دول المنشأ أو حتى دول الجوار، فالجزائر وليبيا ظلّتا ترفضان إدخال هؤلاء المهاجرين، حين يتم اقتيادهم إلى المناطق الحدودية. وأدّت هذه الحال إلى وضعيات كارثية، ذهب مهاجرون عديدون، النساء والأطفال، ضحية لها.
ظلت إيطاليا، في كل هذا الجدل، الوحيدة صاحبة الصوت المرتفع والأكثر حديثا عن مسألة الهجرة، حيث تلقّفت رئيسة حكومتها، جورجيا ميلوني، التي استثمرت رهاب المهاجرين في الرأي العام الإيطالي من أجل لعب ورقة انتخابية، هذا الخطاب "السيادوي" والمعادي للمهاجرين الذي صدر عن السلطات التونسية من أجل إدماجهم ضمن المقاربة الشعبوية التي تلهم ميلوني وسعيّد، ووحّدت الخطاب والممارسات والأهداف.

فطنت السلطات التونسية، أنها تملك ورقة تفاوضية ثمينة، ولا يمكن بيعها بثمن زهيد

كانت إيطاليا تدرك أن السلطات التونسية، وهي تتخذ هذه المواقف الحادّة، تستند إلى  ركيزتين: الأولى مبدئية، لأنها نابعة عن عقيدة شعبوية، ترى في الأجانب خطرا يحدق بهوية البلاد وسيادتها، وهي العقيدة ذاتها التي استندت إليها ميلوني، حين قادت حملتها الانتخابية وفازت بها مع حزبها "حزب الأخوة" في انتخابات 2022. الثانية براغماتية، إذ تدرك جيدا أن تونس تمرّ بأزمة اقتصادية حادّة، خصوصا في ظل تعثّر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. لذلك سارعت ميلوني إلى عرض وساطة مزدوجة، سواء مع الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي، من أجل المساهمة في تخفيف الضغط الاقتصادي عن السلطات التونسية، لتوقيع اتفاقات مع الهيئتين. وأقنعت ميلوني رئيس حكومة هولندا مارك روتي ورئيسة مفوضة الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لاين، بزيارة تونس، كما أمرت وزير خارجيتها أنطونيو تاجاني بزيارة تونس أكثر من مرّة. وتوّجت هذه الجهود بتوقيع مذكرة تفاهم من أجل إسناد تونس "لمكافحة الهجرة غير الشرعية"، ضمن حزمة أخرى من الإجراءات من شأنها تحفيز تونس على إبداء تعاون أكثر حتى تتحوّل إلى جدران متقدّمة للقلعة الأوروبية الحصينة. ولكن الرئيس سعيّد فاجأ الجميع برفض المبلغ الذي اعتبره زهيدا (42 مليون يورو تُصرف قريبا من مبلغ إجمالي قدّر بـ 105 ملايين يورو)، وأنه يتناقض مع الاتفاق الذي وقعه الاتحاد مع تونس، وهي مسألة مبدئية لديه. وربما كان بهذا يردّ على منتقديه الذين اعتبروه خضع للابتزاز الإيطالي، والأوروبي عموما، غير أن الأمر، إذ يستند إلى ما رآه الرئيس مسألة مبدئية، لا يخلو من براغماتية، في ظل ما فطنت إليه السلطات التونسية، أنها تملك ورقة تفاوضية ثمينة، ولا يمكن بيعها بثمن زهيد. لذلك، المتوقع أن يلتقي الطرفان من أجل تكييف الاتفاق السابق وتفعيله على ضوء ما سيقدّم الأوروبيون مجدّدا لتونس.
الجدل الذي أثارته تصريحات الرئيس التونسي خلال الأسبوع الفارط، وردود الأفعال الفورية، تظهر مرّة أخرى التعويل الكبير الذي تبديه الأطراف الأوروبية على الجهود التونسية في التعاون من أجل "التصدّي  للهجرة"، خصوصا في ظل الانقسام الليبي الحاد وعدم تعاون السلطات الجزائرية. لا يتوقع أي عاقل أن العوامل الموضوعية لاندلاع موجات الهجرة ستزول، بل إنها مرشّحة للزيادة، التغيرات المناخية الحادة والحروب الأهلية في ظل طفرة الانقلابات العسكرية ستجعل الأمر أكثر عسرا، ما يقتضي جهدا جماعيا، نرجو ألا يكون على حساب حقوق المهاجرين.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.