تونس في مهب تحوّل استراتيجي في المتوسط

29 ابريل 2021
+ الخط -

لا تتحقق التوقعات التي تشير إلى تحولات ذات طبيعية استراتيجية في السياسات الدولية بالسرعة المرجوة. ولذلك تظهر، في أولها، كأنها تخمين أو تمنيات كتاب يتّخذون من أمانيهم وقائع. على الرغم من ذلك نستشعر أن تحولا عميقا يجري الآن في البحر المتوسط، سيغير موازين القوى فيه، وتكون تونس في قلب اللعبة الديبلوماسية والأمنية الجارية. قد تفاجئنا النتائج بسرعتها، وقد ننتظر فترة طويلة، ولكن حركة السفراء في كواليس الحكم في تونس ليست زيارات مجاملة وتبادل تهاني برمضان. الأمر أعقد من ذلك. كان شهر إبريل/ نيسان في تونس عاصفا، وقد فاح بخار معارك ديبلوماسية كثيرة، تؤشّر إلى قلع أقدام فرنسا من تونس وإحلال قدم أميركية وسكسونية. ولكن ماذا قد يكون الثمن الذي سيدفعه التونسيون نظير هذا التحول؟

لمع السفير الأميركي أكثر من غيره في شهر إبريل، خصوصا أنه يتنقل بين مكتبي رئيسي البرلمان والحكومة، ويلقي تصريحات متحمسة للتجربة التونسية، ويساند عملية الانتقال الديمقراطي الذي يتعرّض لصعوبات مالية، توشك أن تؤدّي إلى الإفلاس، لكنه لم يظهر قريبا من قصر قرطاج. وتصدر أخبار كثيرة عن تواصل جهات برلمانية تونسية مع الإدارة الألمانية التي تعرب عن الموقف نفسه. ونعرف حماسة السفير التركي وإدارة بلاده لدعم الانتقال الديمقراطي. وبالتوازي، يظهر السفير الفرنسي بجانب رئيس الجمهورية، من دون أن ينبس بموقف ويعلن موقفا معتدلا بعد لقائه رئيس الحكومة. وتتوالى التسريبات غير الرسمية عن خلاف عميق بين الإدارتين، الفرنسية والأميركية، بشأن مستقبل تونس، في لحظة مصيرية تستعد فيها تونس للخروج إلى مؤسسات الإقراض الدولية، باحثة عن تمويلات لمواجهة نقص السيولة ومواجهة استحقاقات الحكم المعطلة. ويرسم التقاطع بين الأخبار الرائجة أن هناك طرفين مهمين يختصمان حول تونس، كل يخطب ودّها، أو يريد أن يلحقها بمجاله الاقتصادي والسياسي.

ليس للشعب رأي في ما يجري، و "اللعب" يتم بين الكبار بشأن تحديد مصير الطفل الصغير العاجز (تونس)

سمعنا كلاما غير رسمي (قد يكون الترجمة العملية للوقوف مع تونس)، تجرّ به فرنسا تونس إلى نادي باريس، للحصول على تمويلات بفوائض عالية، تضعها تحت هيمنة مباشرة لبنك باريس. بينما يعرض الأميركيون سقف تمويل مفتوحا لتونس، نظير ابتعادها عن نادي باريس، وينتظر أن يظهر رئيس الحكومة في واشنطن قريبا، حتى أن مسارعته بالتلقيح ضد وباء كورونا فهمت في هذا الإطار.

نوشك أن نقول إن ليس للشعب رأي في ما يجري، وأن "اللعب" يتم بين الكبار بشأن تحديد مصير الطفل الصغير العاجز (تونس). يتابع المهتمون بالشأن العام معركة الرئيس مع الحكومة والبرلمان، وهي معركة داخل معركة الأحلاف الذين ذكرت، أو هي ترجمة لها على الأرض. لقد بات واضحا أن الرئيس، وحزامه السياسي غير المتجانس فكريا، يقف مع الصف الفرنسي، تبعا لتلك القبلات التي وضعها الرئيس على كتف الرئيس الفرنسي، حين أنكر تاريخ الاحتلال الفرنسي لتونس، وفسره وهو في باريس حماية قانونية، وطلب عدم الاعتذار عنه. بينما يقف رئيسا الحكومة والبرلمان وحزامهما السياسي في الصف المقابل. ويبدو أنهم يميلون إلى الموقف الأميركي وحلفائه الأتراك والإنكليز والألمان، ويحتمون به من الضغوط الفرنسية المباشرة. (لم تصدر عنهم مواقف بينة، وإذا صحت زيارة رئيس الحكومة لواشنطن فإن الموقف يتضح بجلاء لا لبس فيه).

المعركة واقع يستشعره التونسيون، وقد يخضعون له من دون قدرة على الرد أو تحسين شروط الخضوع

ولكن الموقف مما يجري في تونس ليس خاصا بتونس، بل يشمل المنطقة برمتها وشمال أفريقيا في قلب الأحداث. وإذا كان الجزائريون أقوياء بثرواتهم الطبيعية، وبموقفهم التاريخي الرافض (في العلن) لكل أشكال التبعية الاقتصادية والإلحاق السياسي، فإن وضع تونس وليبيا ليس بالقوة نفسها، فهما البلدان اللذان أرهقتهما الثورة، ونزلت بقدراتهما إلى لحظة ضعف كاشفة. وهما يقعان الآن في قلب هذا الصراع السياسي بين فرنسا والولايات المتحدة التي نراها مشغولة بمصير تونس وليبيا، بقدر انشغالها بقطع الطريق على حلف صيني روسي يحاول التسلل إلى أفريقيا، سوق المستقبل ومجاله الاستثماري الواعد.

وضعت فرنسا يدها في الحلف الروسي الصيني، وتخلّت عن شركائها الأوروبيين الذين لا يرتاحون لوجود روسي خارج روسيا، وبالتحديد الألمان. ونميل إلى تفسير الحركة الأميركية في تونس وفي ليبيا، وربما في الجزائر (حيث لا تتسرّب الأخبار) ضمن هذا السياق. بناء قاعدة أو أحلاف يُتخذون بوابة دخول إلى أفريقيا، وكل خطوة في أفريقيا تصطدم بالضرورة بجدار صد فرنسي تاريخي، خصوصا شمال خط الاستواء. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير قتل رئيس تشاد، إدريس ديبي، رسالة أميركية لفرنسا أن مجالها الحيوي قد اخترق، وأن عليها التفاوض على أرواح حلفائها التاريخيين. فيكون ظهور الرئيس الفرنسي في موكب تأبينه وتوريث السلطة لابنه ردا على محاولة الاختراق، وعزم فرنسا على عدم الاستسلام، وهو ما يثير مخاوف في تونس، ففرنسا أشد تمسّكا بتونس جارتها من تمسّكها بتشاد التي ترقد على مدخر يورانيوم تحتاجه المفاعلات الفرنسية. (ربما نفهم المشروع المتعلق ببحر ليبي داخلي يفتح من سرت حتى العمق الليبي، لتسهيل النقل البحري من تشاد التي ليست لها حدود بحرية على المتوسط).

الصراع السياسي المحلي في تونس بين رئيس تونس ورئيسي الحكومة والبرلمان صار دولياً

لا يبدو أن التونسيين واعون بما يجري حولهم، أو لعل وعيهم لا يترجم بموقف علني في المعركة الدائرة بشأن مصيرهم، لكن المعركة واقع نستشعره، وقد نخضع له من دون قدرة على الرد أو تحسين شروط الخضوع، فالأمر في جوهره استبدال احتلال بآخر قد نتوهم أنه أقل سوءا مما سبق. من هذا المنظور، نقول إن الصراع السياسي المحلي بين رئيس تونس ورئيسي الحكومة والبرلمان قد صار دوليا، وأن التفاصيل المتعلقة بتعطيل المحكمة الدستورية وأداء الوزراء اليمين ليس إلا الجزء الظاهر من كثيّب الرمل المتحرّك (الجليد ليس تونسيا). يشتغل الرئيس لصالح جهة أجنبية (فرنسية)، تود الإبقاء على تونس ضمن نطاق نفوذها التاريخي، وهذا يفسّر لنا انحياز حزب فرنسا، بمكوناته الاستئصالية إلى جانب الرئيس، بعدما أعلن مشاركته في معركتهم، وهي معركة فرنسية لا تونسية. ويكون تصلب موقف البرلمان ورئيس الحكومة هو الرد ضمن المنظور الدولي نفسه على الموقف المنحاز لفرنسا، بما يحول تونس إلى ساحة صراع فرنسي أميركي لكل فيه أحلاف خارجية وأياد داخلية.

الإقراض بفارق في نسبة الفائدة لا يجعله هبة تحرير من الاحتلال، فكلها مغريات تغيير ولاء بأمل تحرّر. ولكن أنّى للتحرّر أن يكون إذا كان وعي الناس ينساق بسهولة وراء الأحلاف الهشّة لا تدرك عمق اللعبة الدولية؟ أين من تونس مشهد الشباب الأميركي يسير بشعار "الشعب يريد إسقاط وول ستريت"، مقلدا الشباب التونسي في لحظته الثورية. كان حلما مضى ونحن الآن في واقع مختلف، تتسوّل فيه تونس قرضا بفائدة مخففة، ويمكن أن يُقدّم مستقبل البلد رهينة لمحتل جديد. هذا لا يعني أن المحتل الأول كان رحيما، ولكن لا ضمانة أن يكون المحتل الجديد أرحم بالتونسيين من أنفسهم.

الحرية خيال جميل يستوطن عقول نخبة متحرّرة روحا وفكرا، وقد مرّت اللحظة الثورية، ولم تصنع النخبة هذا الخيال الجميل. وسنكتب عن التحولات الاستراتيجية وننتظر نتائجها على التونسيين، لا لهم، فالحرية لم تستوطن النفوس، فليتحوّل المتوسط إلى بحيرة أميركية متى شاء، فنحن فيه دوما محطة عبور للقوى الكبرى، ونعيش على قروض بنسب فائدة تحدّدها قوى خارجية.

A0570709-847A-4477-A67C-B64FE0EC754D
نور الدين العلوي

أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية