انتصار أكسجين في رئة الربيع العربي
نتفاءل بالانتصار الفلسطيني في رمضان 2021، ونزعم أنه سيكون له أثر طيب على الربيع العربي، المختنق بمكائد أعدائه والمرعوبين من آثاره على عروشهم. نحن الذين عشنا أحداث الربيع من تونس إلى جبال اليمن وحدود الأطلسي، وشاركنا بقدر ما طلبت الثورة، وبقدر ما أمكننا الجهد، ولا نمن على أحد، وعشنا أيضا الردّة الكاسرة، منذ انقلاب العسكر المصري على التجربة المصرية. وعايشنا مسار تخريب الثورتين، السورية واليمنية، وعشنا حقبة ترامب التي رعت الردّة وموّلتها. عشنا أيضا، وبشعور من يسير داخل معجزة حية، حرب رمضان في القدس، ونصرة غزة لها، وشاركنا، بقلوب واجفة، تحرّك عرب 48 الذين ظن العالم أن هويتهم الأصيلة قد طمست، فإذا هم فلسطينيون حد الشهادة. نعيش لنكتب بفرح غامر وتفاؤل غير محدود (ولن نحسب الشهداء) أن هذه الانتفاضة المفتوحة قد ضخت هواء نظيفا في رئة الربيع العربي. وهذه حججنا.
لم نشك أبدا أن الانقلاب في مصر ما كان من أجل مصر ديمقراطية، وقد أضر بمصر وحمى الكيان الإسرائيلي، ليس فقط بما هدم من أنفاق، كان الفلسطيني قد حفرها بأسنانه وأظافره، ليتمول منها قوتا وسلاحا، وليس لحصار غزة، ومنع وصول المعونة والمدد، بتنسيق كامل مع العدو، بل بمنع المواطن المصري من التعبير عن توقه للحرية، ومن توقه أن يفكّ الطوق عن أخيه الفلسطيني الذي شاركه البؤس والفرح قرونا.
أربع سنوات مع ترامب لم تجعل الفلسطيني يفقد بوصلته، أو يخذل ثورته المتربصة بالعدو
لم تنطل ذريعة فشل الإخوان المسلمين على أحد، وإن لم يفلحوا في حماية الثورة، ونجزم لو أن قوة وطنية مصرية أخرى تصدّرت إدارة مرحلة الثورة وما بعدها، لكان مصيرها مثل مصير "الإخوان". وكان العدو يعرف وما زال أن مصر قلب الأمة، وأن دورها في تحرير فلسطين لن يكون له عديل. ولذلك كان رعبه من الثورة المصرية كبيرا. ولذلك سارع إلى منعها من الاكتمال والتطور، وناصر إعادة دور العسكر المصري حاميا وحصنا لدولة الكيان منذ ما قبل "كامب ديفيد".
وتلك الضربة القاصمة للربيع العربي أطمعت فيه المرعوبين منه، فامتد مخطط التخريب إلى اليمن وسورية بعد البحرين، ولا تزال تونس تعاني مكائد الردّة على ثورتها، وتتنفس داخل أزمة مالية خانقة، توشك أن تذهب بها، لولا أن الفلسطيني تحرّك في وقت ضروري جدا، فضخّ دم الحياة في أنصار الثورة، فكيف ستعود الثورة العربية بدم فلسطيني بعد رمضان الانتصار؟ وقد كان ذلك التخريب هدفا رئيسيا خاضت دول الردّة العربية من أجله حربا كبيرة، تحت مسمّى صفقة القرن التي سقطت بانتصار رمضان، وليس بسقوط الرئيس الأميركي السابق، ترامب، فالإدارة الأميركية الحالية، وإن لم تعلن تبنيّها مشروع الصفقة برمته، إلا أنها لم تتنصل منه، ولكن بمن ستبنيه الآن، وأنصاره يتراجعون على كل الصعد المالية والسياسية.
وهذا "نظام أوسلو" في الأرض المحتلة فقد آخر ورقة توت استتر بها، وهو وإن كابر سيجمع حقيبته ويغادر، والتنسيق الأمني لن يكون عملا لا أخلاقيا فقط، بل خيانة موصوفة في نظر كل الفلسطينيين. أما حزام المشروع المتمثل في غير نظام عربي، فهم واقفون الآن على حافة هزيمة في حربٍ نصروا فيها العدو، بما أوتوا من قوة، فضلا عن أن مشكلاتهم الداخلية قد تحولت إلى عوائق فعالة أمام تفرّغهم لمحاربة الفلسطيني والثائر العربي في كل قُطر.
لم يقل التعاطف مع المعركة الفلسطينية عما سبقه، وربما لو توفرت أدوات قياس علمية، لأثبتنا فيه زيادة وانتشارا
أربع سنوات مع ترامب لم تجعل الفلسطيني يفقد بوصلته، أو يخذل ثورته المتربصة بالعدو. وفي انتصاره الآن رسالة واضحة لحزام ترامب المرعوب، وللإدارة الأميركية الجديدة المتربصة بعد. لم تقدروا على شيء مما رغبتم "وبما كسبتم وأعطيتم"، والمعركة لا تزال في سياقها التاريخي معركة تحرّر وطني وقومي.
تقول الرسالة إلى النظام في مصر إنه لم تعد مجديا في حماية الكيان. وربما سيكتب الاستراتيجي الأميركي، في تقاريره، إنه ليس ممكنا حماية إسرائيل من خارجها بمثل هؤلاء، لأن التهديد داخلي بالأساس، وهو يتفاقم ولا يتراجع. ونعتقد جازمين أن تحرّك عرب 48 لم يسقط مشروع القرن، بل أسقط أيضا كل وهم بأن الفلسطيني يمكن أن ينسى أنه محتل وأرضه مغتصبة. في هامش الرسالة جملة ستقرأ بعناية في كواليس السياسة الدولية، فاوض مع الفلسطيني رأسا ولا تتخطّاه إلى غيره. وهنا تصبح البلدان التي انخرطت في خطة ترامب غير مفيدة، ولا دور لها في المستقبل المنظور، أي يمكن التخلي عنها إلى مصيرها، وفي أفضل الحالات مواصلة ابتزازها، لتحافظ فقط على مكاسب سلاطينها، كما كان الأمر منذ نشأتها. لقد همّش انتصار رمضان دول مشروع القرن، وجعله حديثا ماضيا.
الربيع العربي يستعيد بقوة شعاره الأساس "الشعب يريد تحرير فلسطين"، وقد رفعه بالتوازي مع "الشعب يريد إسقاط النظام"
لم يقل التعاطف مع المعركة الفلسطينية عما سبقه، وربما لو توفرت أدوات قياس علمية، لأثبتنا فيه زيادة وانتشارا. على طول خريطة "فيسبوك" في المغرب العربي إلى بلاد السنغال، التقطنا علامات تعاطف ووعي بما يجري، ودعوة إلى النصرة. .. بوصلة الشعوب لم تحد، ولم تضيع شمالها، القدس. وقد تعزّز الربط بين أمرين مهمين، الشعوب الأكثر تمتعا بالحرية، مثل تونس، كانت أعلى صوتا في الانتصار للقضية. وكانت أصوات المشكّكين هي الأضعف. وحتى في ليبيا، المشغولة بهمومها، كان الشارع مع فلسطين. ويربط بين الحرية في كل قطر وتحرر فلسطين، ويحوّل هذه الحرية إلى وسيلة مساندة وشرط لها.
ومن دون مزايدة نقول ربما تأخر الشارع المصري المقهور عن هذا الموعد التاريخي، ولكن لا نشكّ لحظة في أن شعب المواجهة الأقدر قد ينسى موعده. وقد قرأنا لنخب مصرية أن غياب الديمقراطية في الداخل قد منع التعاطف الشعبي مع المعركة في القدس، وهذا تحليل صائب. لقد تذكّر كثيرون حادثة اقتحام سفارة الكيان في القاهرة، وإنزال علمها، على الرغم مما شابه من غموض حينها.
المنطقة على أبواب تحول استراتيجي مهم، لا يقل أهمية عن لحظة انفجار الربيع العربي في تونس، وانتشاره عربياً
ويكشف هذا الهواء النقي المتجدّد بانتصار القدس روح شعب عربي واحد، يطمح إلى الحرية، ويقدر فائدتها في معاركه القُطرية، وفي معركته القومية، وهما معركة واحدة، على بقع جغرافية متعدّدة. وإذ تثبت هذه القناعة في التحليل وفي العمل، فإن الربيع العربي يستعيد بقوة شعاره الأساس "الشعب يريد تحرير فلسطين"، وقد رفعه بالتوازي مع "الشعب يريد إسقاط النظام".
المنطقة على أبواب تحول استراتيجي مهم، لا يقل أهمية عن لحظة انفجار الربيع العربي في تونس، وانتشاره عربيا. نحن نضع معركة رمضان/ القدس 2021 في قلب هذه الثورة العربية أكثر مما نضعها في قالب معركة الفلسطيني التي خاضها في السابق وحيدا. ونجزم أن سيكون لها ارتداد أوسع من باحة المسجد وأشد انفجارا من صواريخ غزّة. ونظن أن الإدارة الأميركية، على الرغم من بياناتها المنافقة، ستقرأ الحدث في شموليته العربية، ولن تقف عند التوصيف الصهيوني للمعركة، بصفتها معركة الإرهابي الفلسطيني ضد أكبر بلد ديمقراطي في المنطقة. وفي كواليس التخابر، تعرف الإدارة الأميركية، كما الصهيونية، من قاد المعركة، ومن نظّم إيقاعها وستجلس إليه تفاوضه على المستقبل، ولو كان في سجون العسكر المصري. لقد عدل الفلسطيني الإيقاع والربيع العربي يتنفّس هواء جديدا.