تونس .. الانتقال الديمقراطي في خطر

21 مارس 2021
+ الخط -

يمكن اعتبار تونس محل الاختبار الأنسب لإمكانية الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية. الثورة التونسية هي الوحيدة التي نجت من مضاعفات عديدة ألمّت بالثورات العربية الأخرى. نجت من الانزلاق في مسار عنيف، ومن التحول التالي إلى صراع عسكري، كما حصل في ليبيا وسورية واليمن، وهو مسارٌ يقتل، بطبيعته، البذور الديمقراطية في الحراك. ونجت من انقلاب الجيش على الخطوة الديمقراطية الأولى (الانتخابات) التي أنتجها الحراك كما حصل في مصر، بعد سنتين ونصف السنة من تاريخ اندلاع الثورة. ولا يقل أهمية عن ذلك ما توفرت عليه حركة النهضة (الحركة الإسلامية الأهم في تونس) من روحيةٍ وطنيةٍ معقولة، ساهمت في تخفيف مشكلة العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين.

عقب الانتخابات التأسيسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 التي فازت فيها "النهضة" بأكبر عدد من المقاعد (89 مقعداً من 217)، نشأ تحالف ثلاثي شكّل ما عرف باسم حكومة الترويكا. لعل عدم فوز الحركة بأغلبية مطلقة ساعد أيضاً في انفتاحها على أحزابٍ أخرى لتشكيل الحكومة. لكن التحدّي الكبير الذي واجهته حكومة الترويكا، التي ضمت حركة النهضة (رئاسة الحكومة) مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية (علماني، رئاسة الجمهورية) والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (علماني، رئاسة المجلس الوطني التأسيسي)، هو الفجوة الكبيرة بين توقعات التونسيين، بعد الخلاص من رأس النظام السابق، وقدرة الحكومة على ملاقاة هذه التوقعات. بعد كل ثورة، هناك خيبة تنتظر الثائرين، وغالباً ما تبتلع هذه الخيبة الحكومة التالية، وقد تبتلع الثورة نفسها وتؤسّس لنكوص يطول.

بتأثير الفجوة المذكورة بين التوقع والمردود، بدأت الخلافات والاتهامات داخل أطراف الترويكا التي كانت توصف بالتحالف "الاستراتيجي". هكذا شهدت تونس اضطرابات حكومية، فانحلّت حكومة الترويكا الأولى (برئاسة حمّادي الجمالي)، على أثر اغتيال المعارض شكري بلعيد، وتشكلت حكومة ثانية (برئاسة علي العريّض)، دخلت بدورها في أزمة عقب اغتيال معارض آخر هو محمد البراهمي.

عدم غلبة الميل الإسلامي على الشارع التونسي ساعد في عدم انغلاق المسار الديمقراطي

 

بعد سقوط بن علي، ظهر العنف بوصفه تحدّياً، ذلك أن الحكومة الجديدة التي تعقب الثورة تكون أضعف من الاضطراب الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه المجتمع، وفي الوقت نفسه، تكون هذه الحكومة على محكّ الديمقراطية، أي تكون تحت منظار شعبي حسّاس لأي سلوك غير ديمقراطي، على اعتبار أن الاستبداد هو الداء الذي حرّك الثورة أصلاً. غليان اجتماعي وانقسامات سياسية من جهة، وحكومة مقيدة بالديمقراطية من جهة أخرى.

لم تنجح حكومة الترويكا تماماً في الاختبار الديمقراطي، فقد ظهر النزوع التسلطي لديها في تجاوز مهلة السنة المحدّدة للمجلس التأسيسي لوضع دستور للبلاد، وفي تجاوز كونها حكومة انتقالية، ما نجم عنه انعدام ثقة مع الجمهور والأطراف السياسية. من هذه البوابة، عاد السياسي المخضرم، الباجي قايد السبسي، إلى الحياة السياسية في بيان شهير يطالب "الترويكا" والمجلس التأسيسي باحترام المهل المحدّدة.

التحدّي الآخر الذي تواجهه عادة كل حكومة ما بعد الثورة هو الوضع الاقتصادي. شهدت فترة حكم الترويكا ضعفا في التنمية وزيادة في البطالة وفي الديون. وليست محاربة الفساد المتأصل مهمة سهلة أيضاً، فقد تقود إلى هروب المستثمرين ورأس المال. وقد راحت "الترويكا" تعزو عجزها إلى التعطيل الذي تمارسه المعارضة اليسارية والاتحاد العام للشغل. وصل التوتر إلى حد الاعتداء المباشر، من مليشيات تابعة للأحزاب الحاكمة، على المقر المركزي للاتحاد، من دون صدور تنديد من حركة النهضة، ولا من "المؤتمر" بهذا الاعتداء. وبتأثير هذا العجز، قبلت الحكومة بعقد حوار وطني بادرت إليه أربع مؤسّسات مجتمع مدني عرفت باسم (الرباعي الراعي للحوار)، وقد حاز هذا الرباعي على جائزة نوبل للسلام في العام 2015، "لأنه أنقذ تونس من الانهيار". نجم عن الحوار تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة مهدي جمعة (مستقل) حكمت عاما.

ظهرت في انتخابات 2019 لغة سياسية متحفّظة تجاه الديمقراطية، تركّز على فكرة السيادة الوطنية والهوية الوطنية، وتهاجم حقوق الأفراد بوصفها اعتداءً على الأسرة

يمكن القول إن عدم غلبة الميل الإسلامي على الشارع التونسي ساعد في عدم انغلاق المسار الديمقراطي، من حيث إنه لم يغذِّ الميول التسلطية الكامنة لدى "النهضة" (كأي حزب آخر، سيما التي تقوم على مبدأ هوياتي) التي اضطرّت إلى التحالف مع غيرها، كما سمحت للشارع التونسي في تجريبها في الحكم. كانت النتيجة أن "النهضة" خسرت 20 مقعدا في الانتخابات التالية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، فيما فاز حزب نداء تونس الذي أسسه قايد السبسي في منتصف 2012 بالعدد الأكبر من المقاعد (86). وأشارت نتائج هذه الانتخابات إلى أن الشارع التونسي ابتعد أكثر عن الإسلاميين لصالح الميول الإصلاحية والخبرة في إدارة الدولة، وانتخب حزباً "غير ثوري"، أي لم يكن له وجود قبل الثورة، ويرأسه أحد أبرز رجال النظامين السابقين (بورقيبة وبن علي). كانت فترة الحكم بين انتخابات 2014 وانتخابات 2019 كافية لتبخّر وزن هذا الحزب بشكل شبه كامل، فلم يحصل في انتخابات 2019 سوى على ثلاثة مقاعد. وفي المنطق، يرتبط التراجع الحادّ للحزب الجديد أيضاً بوفاة السبسي، لما للأشخاص من أهمية في الوعي والنفسية العربيين. وهذا ما أظهره أيضاً فوز حزب "قلب تونس" بالمركز الثاني من انتخابات 2019، لارتباطه باسم نبيل القروي، في حين أنه تأسّس قبل أربعة أشهر فقط من الانتخابات، من دون إغفال دور القدرات المادية لهذا الحزب. وواصلت حركة النهضة تراجعها الشعبي على مدى الانتخابات الثلاثة (89، 69، 52 مقعداً)، وفشل مرشّحها إلى الرئاسة، عبد الفتاح مورو، في بلوغ الدورة الثانية، لكنها تحتفظ بوزن مهم وثابت في المشهد السياسي التونسي، بوصفها تعبيرا عن جزء مهم من هوية المجتمع.

عرض المشهد السياسي التونسي المتحرّك في انتخابات 2019 ميلين متناقضين، ظهرا جلياً في التباين الشديد بين شخصيتي المرشحين اللذين وصلا إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. قيس سعيد (النزيه المتقشّف العروبي) ونبيل القروي (رجل أعمال، سجين بتهم فساد، ذو ميول غربية).

برز ميل نحو مركزة السلطة والموارد في يد سلطة تنفيذية قوية، وتغذية الحنين إلى الماضي

ظهرت في هذه الانتخابات لغة سياسية متحفّظة تجاه الديمقراطية، تركّز على فكرة السيادة الوطنية والهوية الوطنية، وتهاجم حقوق الأفراد بوصفها اعتداءً على الأسرة التي هي المجال الاجتماعي الأخير لمواجهة الظروف الحياتية الصعبة، مع المطالبة بدولةٍ قوية، وما يرتبط بهذا الميل المحافظ من رفض المساواة بين الجنسين في الوراثة ورفض إلغاء عقوبة الإعدام. وقد مثل هذه اللغة المرشّح الرئاسي قيس سعيد الذي فاز بنسبة 73% في الدورة الثانية.

وقد فتحت المنافسات السياسية بين الأحزاب على خلفية الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها الحكومات المتعاقبة الباب لبروز شخص مستقل (قيس سعيد) نظر إليه التونسيون، سيما الشباب منهم، على أنه سينقذ البلاد، من فوق الأحزاب (فهو مضادّ للأحزاب) ومن فوق البرلمان (يرى أن البرلمان يحرف إرادة الشعب)، لكنه لم يكن سوى بابٍ إلى إحباط جديد.

وفتح هذا التعقيد المجال للهرب من تحدّيات الواقع إلى صراع الأفكار المجرّدة المتعلقة بالهوية وبالسيادة الوطنية، وإلى بروز الميل نحو مركزة السلطة والموارد في يد سلطة تنفيذية قوية، وتغذية الحنين إلى الماضي، ما ينطوي على تهديد بنكوص ديكتاتوري.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.