تلك الأصول
خلال إجراءات استخراج التأشيرة من السفارة الباكستانية في بغداد، قبل سنوات، تعرّفت على موظّف عراقي في السفارة قال إنه من أصول باكستانية، وإن عائلته تلقّب بـ"الهندي" نسبةً إلى الهند التاريخية، التي جاء منها جدّه الأعلى واستقرّ في العراق، هذا قبل أن تقسّم الهند لاحقاً.
قال لي هذا الموظف إنه كان مشغولاً سنوات عدّة بالبحث عن أصوله، حتى حانت له فرصة ليعرف أن المدينة التي انحدر منها جدّه الأعلى تقع في باكستان الحالية، ما دفعه إلى السفر لهذه المدينة، والسؤال عن أصول جدّه، ما قاده، في النهاية، إلى مدوّنات أحد الباحثين الباكستانيين في المدينة، والذي تعرّف على هذا الجّد الأعلى، وقال لصاحبنا: إنه فلان بن فلان اليمني .. لأن أسلافه مهاجرون من اليمن.
يقول لي هذا الموظف إن دهشته كانت كبيرة، هو الذي عاش عقوداً طويلة تحت فكرة أنه ليس عربياً، وأنه من أصول هندية، لتقوده رحلة البحث إلى نتائج غير متوقّعة، فقد سافر من العراق وهو يرى نفسه باكستانياً، ثم عاد إلى العراق وقد غدا عربياً، وهذه نتيجة سارّة بالنسبة له!
الانشغال بالأصول أمر شائع، ونجده في كل الثقافات والشعوب، المتحضّرة والمتخلّفة، ولكن طبيعة الانشغال قد تكون مختلفة. لقد قامت الممثلة الأميركية الشهيرة ميريل ستريب بتحليل "دي أن أي" للكشف عن جيناتها، وكانت تتمنّى لو تجد في مركبها الجيني شيئاً من جينات السكّان الأصليين لأميركا الشمالية، أو جينات أفريقية، ولكن النتيجة جاءتها أن أصولها مائة في المائة أنكلوسكسونية، وهو ما دفعها إلى الضحك بسبب النتيجة المفاجئة. ولكن الأمر، في النهاية، لم يكن سوى فضول ونوع من التسلية بالنسبة لها لا أكثر.
الأمر مختلف في الصومال مثلاً. لقد بنى الروائي الصومالي نور الدين فارح واحدة من رواياته على فكرة عدم القدرة على معرفة الأصول، مع صبيٍّ تبنّته منظمة دولية لرعاية الأطفال الذين شردتهم الحروب والصراعات. بعد سنوات، حين عاد إلى الصومال كي يتعرّف على أصوله، وما تبقى من عائلته الكبيرة، وجد أن تحديد القبيلة التي ينتمي إليها يعني، في نهاية المطاف، تحديد موقفه بوصفه فردا من العالم والحياة وطبيعة الصراع مع القبائل الأخرى، وأن رغبته بألا يجعل للخلفية القبلية أي تأثير في قراراته كفرد أمر مستهجن وغير مفهوم بالنسبة للآخرين.
في العراق شيء مشابه، فالأصول مهمّة، وهناك هيكل افتراضي يضع مراتب للناس حسب أصولهم. تعتني بيئات الجنوب العراقي ومناطق غرب العراق بالأصول العشائرية كثيراً، وتقيّم الفرد وموقعه وتأثيره حسب أصوله العشائرية، وهل ينتمي إلى عشيرة كبيرة أم صغيرة، وتلاحق ثاراتُ العشيرة وأخطاؤها الفرد المنتمي لها، حتى وإن كان مقيماً بعيداً عنها ولا يعرف عن أمورها وأحوالها شيئاً.
بينما تتراجع قيمة العشيرة في المدن الكبرى وفي مناطق الفرات الأوسط، لتحلّ محلها "العائلة" وتراث العائلة الشخصي، الذي لا يشمل، في النهاية، سوى أفراد معدودين، يعرف بعضهم بعضاً، على خلاف الاتساع البشري للعشيرة. وتبعاً لذلك، يمكن بسهولة أن نعرف أن صديقنا العراقي/ الباكستاني من مدن الفرات الأوسط، وأن عائلته من العوائل التي لها حرف مميزة أو تاريخ ديني. أما لو كان الجد الباكستاني قد عاش في مدن الجنوب ذات الطابع العشائري، فإنه بعد جيل أو جيلين سيذوب تماماً في نسيج العشيرة، ولن يعرف تاريخاً لعائلته سوى تاريخ العشيرة. وهذا ما حدث مثلاً مع مصريين عديدين هاجروا إلى العراق، من أجل العمل في الثمانينيات، ثم تزوج بعضهم من عراقياتٍ و"تعرّقوا"، واليوم هم جزءٌ من النسيج العشائري للمجتمع العراقي، وأولادهم عراقيون تماماً مع لقب العشيرة التي "انتسب" إليها أبوهم المصري بحكم العرف السائد.
في سنوات التسعينيات وما بعدها، وبسبب انهيار الدولة وضعف سيطرتها، ثم ما جرى بعد 2003 من انهياراتٍ أكثر، سهّلت العودة الى الطوائف والعشائر كأصول ومظلّات حامية بعد غياب مظلّة الدولة، وجدت البيئات المدينية في العراق نفسها محاصرةً بالعرف العشائري الذي صار يزحف على كلّ شيء. وبسبب هذا العرف الذي لا يتماشى مع التنوّع المديني، صار النبز بالأصول شائعاً، فنرى على شاشات الفضائيات ونقرأ على مواقع التواصل اتهاماتٍ لشخصية ما بأنها من أصول هندية أو إيرانية أو تركية وغير ذلك، على أنها شيء ينتقص من قيمة ومنزلة هذه الشخصية، ولربما، بسبب هذا الجو غير الصحّي، ابتهج صديقنا الموظف العراقي/ الباكستاني، حين علم أنه من أصول يمنية عربية، وكأنه تخلّص من تهمة!