تفكيك إقليم كردستان عيبٌ وفق الشافعي
تلوح في المسرح السياسي العراقي بوادر أزمة عنيفة، رُبما تعصف بما تبقى من العراق، على أقلّ تقدير من ناحية الانتماء ومفهوم المواطنة والدولة الأم. فقد أصدرت المحكمة الاتحادية العليا، وهي أعلى سلطة قضائية في العراق، سلسلة قراراتٍ من شأنها تقويض تجربة إقليم كردستان وصلاحياتها التي منحها إياها الدستور العراقي، وأعلنت، وفي تحدٍ واضح للدستور وخرقه، عن تقليص عدد مقاعد برلمان الإقليم من 111 إلى مائة مقعد، بحجّة عدم دستورية المقاعد المخصّصة للكوتا، كما منعت مفوضية إقليم كردستان للاستفتاء والانتخابات من الإشراف على الانتخابات البرلمانية المقبلة، وأسندت مهمّة الإشراف والمتابعة للمفوضية العليا "المستقلة"، وتدخّلت في صُلب قانون الانتخابات، وقسمت إقليم كردستان إلى أربع دوائر انتخابية بعد أن كانت دائرة واحدة، وأقرّت بـ"توطين" مرتبات موظفي الإقليم وصرفها "اتحادياً" بمعزل عن حكومة الإقليم، وإلزام سلطات الإقليم تزويد الحكومة الاتحادية بـ"جميع الواردات المالية" المتأتّية من تصدير النفط والمنافذ الحدودية، ومنع منح أيّ قروض مالية لحكومة الإقليم لتوزيع رواتبها.
وتشكّل هذه القرارات مؤشرات لحصار (وإجهاض) دستورية الإقليم وأحقيته في إدارة مناطقه التي كفلها الدستور العراقي. حيث ورد في المقدّمة التأسيسية للدستور أن العراق الجديد ونظامه الديمقراطي بُني على ويأخذ بالاعتبار "عذابات القمع القومي"، لذا فإن نظام الكوتا خيرُ ضمانٍ للأقليات القومية، وضمان وصولها إلى البرلمان، وتمثيلهم السياسي في المؤسّسات الدستورية. ونصّت المادّة الثالثة على أن العراق بلدٌ متعدّد القوميات، والتمييز السياسي الإيجابي الذي كان يمتاز به أبناء القوميات من تركمان وآشوريين وسريان وكلدان في برلمان إقليم كردستان كان تحقيقاً لذلك المبدأ، ووسيلة لتعزيز ثقة تلك الشعوب بعدالة الحياة السياسية، ومنعت المادة 14 أي تمييز على أساس قومي أو عرقي، ووجود تلك القوميات في المؤسّسات التشريعية، هو الضمان الوحيد لعدم التمييز. كما نصّت المادّة 125 على ضمان الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان، والكلدان الآشوريين، وسائر المكونات الأخرى، ويتم تنظيم ذلك بقانون، فكيف سيتم ضمان تحقيق ذلك مع مخاطر عدم وصولهم إلى البرلمان والمناصب العليا في الدولة.
ووفقاً لخبراء قانونيين، فإن من صلاحيات المحكمة الدستورية البتّ في دستورية المادّة الانتخابية أو لا، من دون أن تضع نفسها في موقع المُشرع وصياغة النصوص التشريعية التي لا تعتبر من صلاحياتها. والمفارقة أن قانون الكوتا لا يُنفّذ داخل الإقليم فقط، إنما ضمن العراق نفسه، سواء في قانون انتخابات مجالس المحافظات العراقية، أو المجلس الوطني العراقي، فكيف يكون نظام الكوتا غير شرعي ومخالفاً للدستور في كردستان، وتصرف النظر عن الكوتا في مجالس المحافظات؟
الاستقرار والازدهار كانا العنوان الأبرز للإقليم، وهو ما لا يروق للساسة العراقيين، ومن ضمنهم قسمٌ من النُخب السياسية والعسكرية الكردية أيضاً
وصحيحٌ أن نواقص عدّة وخللاً في الحكم الإداري يعتريان إقليم كردستان العراق، ورُبما يُمكن الذهاب أكثر من ذلك، لكن وفقاً لمؤشّرات التعدّدية السياسية، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية ورسم السياسات العامة، وتجربة التحوّل الديمقراطي، وصولاً إلى طرح الدولة بالمفهومين السياسي والجغرافي، فإن إقليم كردستان العراق قطع أشواطاً لا يُمكن لعديدٍ من الجمهوريات العربية أو على الأقل دول الجوار العراقي أن يُقارَن بها. عدا عن أن الرفاه الاقتصادي والتطور العمراني، والأمان الكبير الذي يتمتّع به الإقليم، لا تًقارن مع عموم المحافظات العراقية، بما فيها البصرة حيث منابع النفط والميناء التجاري، ولا مع بغداد حيث المركز والقوة والسلطة ووجود جميع النُخب السياسية وكارتيلات السلطة وحملة السلاح وغيرها، فالفساد وضعف البنية التحتية والفقر وقتل المتظاهرين وخطفهم في وضح النهار، والاغتيالات، كُلّها من حصة بغداد وعموم العراق، في حين أن الاستقرار والازدهار كانا العنوان الأبرز للإقليم، وهو ما لا يروق للساسة العراقيين، ومن ضمنهم قسمٌ من النُخب السياسية والعسكرية الكردية أيضاً.
منطقة كردستان التي تمكّنت من إدارة شؤونها في التسعينيات، بالرغم من حصار بغداد، وحصار المجتمع الدولي العراق، ونظمّت انتخابات برلمانية حرّة وديمقراطية، حلُمت بالتحوّل صوب الانتقال الديمقراطي والعلاقات الجديدة مع بغداد، لكنها اصطدمت بتشابه سمات المرحلة التي تلت سقوط النظام العراقي وتقاطع مضامينها مع ما سبقتها. حيث يسود في المخيال الكردي العام أن الدكتاتورية والعنصرية والطائفية والمذهبية تطوّرت وانتعشت بدءاً من عبد الكريم قاسم، ومروراً بأحمد البكر، وصولاً إلى صدّام حسين، وانتهاءً بقسم ليس بالقليل من النخب الحاكمة في العراق. إلى درجة أن التمييز على أساس القومية تغوّل في الحالة السوسيو ثقافية والسياسة الأيديولوجية، وتحوّل إلى مصدر رئيسي للأفكار والآراء لعراق بعد حرب الخليج، وبعد 2003، وأصبحت الكاشف لعقلية النخب الرئاسية في تعاطيها مع كردستان، وشكّل خطاب الإلغاء للنخب المتحكّمة ببغداد الركيزة الأساسية في تعاملها مع معارضيها وليس الاحتكام إلى الدستور.
قطع إقليم كردستان العراق أشواطاً لا يُمكن لعديدٍ من الجمهوريات العربية أو على الأقل دول الجوار العراقي أن يُقارَن بها
ولم يسترح شعب كردستان من عنف السلطة، ليكون القاسم المشترك بين النظام العراقي السابق والنظام السياسي بعد عام 2003 وأغلب الحكومات العراقية، توجيه سهام ممارساتها العنفية المخطّط لها ضد كردستان. وشكّل ذلك العنف التجلّي الأكثر بروزاً لسلطة بغداد، وأصبح الصراع على السلطة هو المشرّع المركزي لمزيد من العنف ضد الآخر، مع استمرار تغييب الحقوق السياسية والهويّاتية والثقافية لشعوب كردستان ضمن دولة العراق قبل سقوط نظام البعث وبعده. مع ذلك، سعت شعوب كردستان إلى إعادة تعريف طبيعة علاقتها مع العراق وتحديدها، كاستجابة طبيعية لصيرورة التطور التاريخي للظروف المتغيّرة، وصدّاً أمام مخطّطات الكتل السياسية المتحكّمة بالقرار العراقي، لكنها في كُل مرّة تصطدم بغياب أي إمكانية إصلاح، أو وجود نظام سياسي لا يسمح للمركز بالاعتداء على الأطراف.
في صُلب هذه القرارات، نجحت طهران في تفتيت القوى السياسية العربية السنّية والتركمانية والمسيحية من خلال ضمّ بعضها إلى أجنداتها السياسية، ولم يسترح إقليم كردستان العراق من لوثة تحريك المواجهات السياسية الداخلية، وكثيراً ما شكل قانون النفط والغاز، والانتخابات، وحقّ تقرير المصير، والدستور العراقي الاتحادي، والمشاركة الكردية في رسم السياسات والقرارات العامة في بغداد، جوهر الخلاف السياسي بين الإقليم والمركز، عبر المحكمة الاتحادية العليا التي يتحكّم بها الإطار التنسيقي، والذي يضمّ بين صفوفه أطرافاً كردية هي من بادرت إلى منح المحكمة ورقة ضغط وعقوبات ضد كردستان. وجميع قرارات المحكمة هي ضد القوى السياسية العربية السنية والكردية الذين لم يخضعوا لسياسات إيران وأجنداتها في العراق، وهو دليل مشروع ضد حيادية المحكمة الاتحادية، ومن ثم نسأل: لماذا لم نرَ صدور أي قرار إلى اللحظة ضد القوى السياسية الأخرى، رغم تشكيلها كارتيلات للسلطة، وفصائل عسكرية موازية للجيش العراقي، ولا تحتكم بأمره؟!
لم يسترح شعب كردستان من عنف السلطة، ليكون المشترك بين النظام السابق والنظام بعد 2003 توجيه سهام ممارساتها العنفية المخطّط لها ضد كردستان
الواضح أن الجهات السياسية وراء تلك "العقوبات" على الإقليم تهدف، من هذه الإجراءات، إلى تحقيق مكاسب ثلاثية الأبعاد، أولها إنهاء قضية وجود القوميات في العراق، وهي تبدأ بتعريف مكوّنات الكوتا كمسيحيين، وهذا يُسقط عنهم حقوقهم القومية، علماً إنهم يعملون كآشوريين وكلدان وسريان، وليس كديانة فحسب، والثانية: إجهاض التجربة الديمقراطية في الإقليم وإنهائها؛ فهي تشكّل خطراً على عديدٍ من دول الجوار العراقي، إضافة إلى الوسط العراقي نفسه الذي يُشاهد حجم الفوارق بينهم وبين كردستان، والثالثة: وهي الأهم والأخطر، ضرب مقوّمات الحزب الديمقراطي الكردستاني (العراق) وركائزه، واستمرار مساعي إجهاض السياسات القومية للحزب، و"معاقبته" على رفضه الانصياع للأجندات الخارجية. والمكوّنات القومية والدينية في الإقليم، وعلى مدى تجربة برلمان كردستان منذ تسعينيات القرن الماضي، وهي تصطفّ لجانب تيار البارزانيين، ودائماً ما شكّل 11 مقعدا المخصّص للكوتا قيمة مضافة واصطفاف سياسي لجانب الطروحات السياسية لفريق الحزب الديمقراطي الكردستاني.
قصارى القول: رغم أن هذه القرارات تتعارض مع روح الدستور والحقوق الدستورية لإقليم كردستان ومبادئ الاتحادية ومبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الدستور العراقي، إلا أن مُحرك القضية يدفع كاتب هذه المقالة إلى استلهام مقولة الإمام الشافعي "نعيب زماننا والعيب فينا/ وما لزماننا عيب سوانا... ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ/ ولو نطق الزمان لما هجانا"، فالاتحاد الوطني الكردستاني نجح من جني ثمار شكواه المقدمة في مطلع مايو/ أيار 2023 للطعن في خمس مواد معدّلة (1،9،15،22،36) من قانون انتخابات برلمان كردستان، وطالب بإلغاء التعديلات، وتختصّ تلك المواد بعدد أعضاء برلمان كردستان، ومقاعد "كوتا" الأقليات، فضلاً عن سجل الناخبين وعدد الدوائر الانتخابية.