"تشرين" العراقية ومجالس المحافظات
يتصاعد الجدل بشأن انتخابات مجالس المحافظات العراقية، التي أقرّ البرلمان موعدها في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ويدور في كواليس الشباب، خصوصاً الذين شاركوا في احتجاجات تشرين 2019 وصار الحراك الاحتجاجي مرجعية أخلاقية وسياسية لهم، كلام عن جدوى المشاركة في هذه الانتخابات أو الدعوة إلى مقاطعتها.
كان الانقسام واضحاً بين الشباب عشية الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وذهب كثيرون منهم إلى مقاطعتها، بينما شاركت فيها تيارات سياسية منبثقة عن الحراك التشريني، وحصلت (مع المستقلين القريبين منها) على ما يقارب 20 مقعداً. وفي المجمل، لم يحصل المؤمنون بالمشاركة السياسية من التشرينيين على كتلة برلمانية وازنة، وظلوا على الهامش، ولم يكن لنشاطهم تحت قبّة صنع القرار تأثير كبير على المسارات التي حدّدتها الكتل الحزبية الكبيرة الممسكة بالمشهد.
تقدّم هذه النتيجة الواضحة حجّة مقنعة للذين يرون استمرار المقاطعة خياراً أخلاقياً صائباً، وأن المشاركة ستمنح الأحزاب الكبيرة مشروعيةً أكبر، على العكس من نتائج المشهد الانتخابي أخيرا، حيث لا يجادل أحد بأنها الأقل مشاركة من المصوّتين، وبالتالي، البرلمان والحكومة المنبثقة عن هذا البرلمان الضعيف هما أقلّ مشروعية، ولا يمثلان رأي الأغلبية ممن يحقّ لهم الاقتراع، فهذه الأغلبية اختارت الاحتجاج الصامت ومقاطعة الانتخابات.
الأحزاب الشبابية الجديدة، فضلاً عن المستقلّين القريبين من توجّهاتها، لا يملكون القدرات المالية ولا الماكنة الإعلامية والدعائية التي تملكها الأحزاب المكرّسة، فضلاً عن أن الأخيرة تمسك بأجهزة الدولة، وتستخدم مواردها للدعاية لكياناتها السياسية، وتلوّح بورقة التوظيف لشراء الولاء الانتخابي، ووسائل عديدة أخرى، مشروعة وغير مشروعة، من أجل إعادة التأهيل في المنافسات الانتخابية المقبلة. وهذه كلها موارد يفتقر إليها الشباب المدني والتشريني، بالاضافة إلى أن الأحزاب المسيطرة هي التي أدارت إنتاج النظام الانتخابي الجديد. وبالتالي، هي التي ستدير المشهد لصالحها، وما على الآخرين الراغبين بالمشاركة بالانتخابات إلا الخضوع لهذه الهندسة المسبّقة.
في المحصلة، سيزيد التشرينيون هنا من مشروعية النظام، ولن يحصلوا على حصّة كبيرة من مقاعد مجالس المحافظات القادمة، وسيضطرّون للخضوع للمسارات التي تحدّدها الأحزاب المسيطرة، وربما يتورّطون معهم ويغرقون في وحل الصفقات والفساد والالتفاف على القانون لتحقيق مصالح خاصة. ولكن، وللمفارقة، لن تقدّم المقاطعة نتائج أفضل، وإنْ هناك مصداقية في معالم الصورة السلبية السابقة، إلا أن المقاطعة لن تقدّم بديلاً سياسياً أو احتجاجياً، إلا التعويل على غرق المنظومة السياسية الحالية في الفشل أكثر فأكثر، ثم انفجار الشارع من جديد، وهو انفجار لن يتجرّأ العقلاء على التكهن بموعده، فربما لن يحدُث أبداً، أو يحدُث بعد عقد.
المطلب الأساسي والأهم من التشرينيين اليوم أن لا يجعلوا من "تشرين" صنماً، وأن يعطوا الحقّ لكل من ينتسب إلى "تشرين" بأن يجتهد من دون تخوين ولا تبادل اتهامات، فالعمل الاحتجاجي يختلف عن العمل السياسي المنظّم، وليس كل محتجّ مؤهّل للعمل السياسي، ويحتاج الراغبون به من المحتجّين إلى مران وخبرة واشتباك مع الخصوم، ليس في ساحات التظاهر، وإنما في كواليس العمل السياسي، ومنها مقاعد مجالس المحافظات المقبلة، هذه المرّة على الأقل.
لن يكون من يختار المشاركة في الانتخابات مخطئاً في حساباته، ولا من يرتضي الاستمرار بالمقاطعة، فهذا التنوّع مشروع، وأن يقبله التشرينيون دليلٌ على قبولهم فكرة الديمقراطية أصلاً، هذه التي فشلت الأحزاب الحاكمة في تقبلها أو تمثّلها بشكل حقيقي 20 عاماً، وجلبت على العراقيين الكوارث.
كان جلياً لدى المتابعين أن المجتمع الدولي، بقواه الكبرى الرئيسة، فضّل دعم النظام السياسي الحالي، على علّاته، على أن يدعم مطالب المحتجّين العادلة، وأمضى على حكومة هي الأقل مشروعية، فلم ينتخبها أو ينتخب الممثلين الذين اختاروا هذه الحكومة أكثر من نصف الذين يحقّ لهم التصويت. وكان واضحاً أن هذا المجتمع الدولي لن يدعم سوى التداول السلمي للسلطة، من خلال صناديق الاقتراع، حتى مع معرفته الأكيدة أن الأحزاب المهيمنة استخدمت كل الوسائل لفرض سطوتها، ومنها التصفية والتشريد والتغييب والإرهاب بمختلف أنواعه.
لستُ متحمساً لحجم الفائدة التي يمكن أن يجنيها التشرينيون لو شاركوا في انتخابات مجالس المحافظات، ولكني أقدّر حقّ من يجتهد ويرى المصلحة في المشاركة، وأدعو إلى تقبّل هذا الخيار واحترامه، على ضوء المتغيرات الداخلية وخلاصة تجربتنا مع المجتمع الدولي خلال احتجاجات تشرين وما بعدها.