تركيا والشمال السوري ... هل من تغيير؟
بالرغم من حالة الجمود التي رافقت الملفّ السوري سنوات، إلّا أنّ رياح التغيير بدأت تلوح في الأفق بعد الأحداث الساخنة التي شهدتها سورية أخيراً، أكثرها أهمّية حزمة الارتدادات الشعبية في شمال غربي سورية على خلفية أحداث ولايتَي قيصري وغازي عنتاب، وما نجم عنهما من تداعيات متسارعة.
شكّلت حادثة الاعتداء على سوريين في ولاية قيصري التركية حدثاً مفصلياً في تاريح ثورة السوريين، وحرّكت المياه الراكدة من تحت أقدام المسؤولين، السوريين منهم والأتراك، وكسرت الخطوط الحمراء التي رسمتها دول أستانة، وخلطت الأوراق بعدما كانت متّجهة نحو العاصمة دمشق، إذ لم يكن في الحسبان أن يشتعل الشمال السوري وينفجر في وجه الجميع، بسبب تنامي خطاب العنصرية ضدّ السوريين في تركيا. فلسنوات مضت، تكرّرت مثل هذه الحوادث ومرّت من دون تغيير، أكثرها أهمّية الحملة الشهيرة ضدّ السوريين في مدينة إسطنبول قبيل الانتخابات الرئاسية في أواخر العام 2023. بيد أنّ القصّة تحمل في طياتها مُسبّبات ودوافع أكبر بكثير من ردّات فعل شعبية.
بدأت القصّة مذ شهدنا تغيّراً في المزاج التركي وسياسته في إدارة الملفّ السوري، بعد حسم ملفّ انتخابات البلديات. بعدها، تداخلت الظروف والمُسبّبات والأهداف، حتّى تبلورت في حزمة مشاريع جانبية طبخت ودرست بين روسيا وتركيا، ويدور في فلكها إحياء مسار التطبيع والتصالح بين أنقرة ودمشق، وإنجاز تسويات جانبية تتعلّق في إنعاش عجلتَي التجارة والاقتصاد، مع استمرار الدفع بعودة اللاجئين، من دون أن يُشكّل ذلك ضجيجاً محلّياً أو دولياً، ولذلك أسباب ودوافع محليّة ودولية باتت معروفة بشأن الانعطافة الروسية التركية تجاه الملفّ السوري، كاحتدام الصراع داخل الأحزاب التركية، وقصّة الانتخابات المُبكّرة التي نادى بها الحزب الجمهوري المعارض، وملفّ الاقتصاد، وانتخابات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرقي سورية، في مقابل ما تعانيه روسيا من صراع الإرادات الدولية مع المعسكر الغربي في حروب الشرق الأوسط، وفلسطين، وتطوّرات أوكرانيا، وغيرها من التطوّرات التي باعدت المسافة بين المعسكرَين، ودفعت في الآونة الأخيرة فلاديمير بوتين إلى تنويع الشراكات مع الدول الشمولية الاستبدادية بعد رحلته إلى كوريا الشمالية وفيتنام.
لم يكن متوقّعاً أن يكسر السوريون موانع الجغرافيا التي رسمها الساسة، فقد تلاقت أصواتهم وأوجاعهم من قلب الأناضول في تركيا إلى أقصى نقطة في الشمال السوري
ذلك كلّه، وأكثر، دفع تركيا وروسيا إلى كسر حالة الجمود في سورية خطوةً استباقيةً ومحاولةً ثنائيةً لقطع الطريق على الولايات المتّحدة الرافضة لتسوية الصراع السوري لمصلحة إبقائه ورقةَ ابتزازٍ للدولتَين، مستندةً إلى خطّ الوصل مع إيران، وذراع واشنطن في شمال شرقي سورية (قوات سوريا الديمقراطية)، وحزم العقوبات الدولية. هذا المشهد العام تُرجم عنه سوريّاً حدثان مفصليّان. الأول، سياسي انصبّ على إنبعاث مسار التطبيع بين تركيا والنظام السوري، واختيرت بغداد محطّةً لتهيئة الأجواء. الثاني، إعلان رسمي عن فتح معبر أبو الزندين بين مناطق المعارضة والنظام في ريف حلب تمهيداً لفتح طريق "أم فور" الدولي، عبر تشغيل طريق حلب/ عنتاب. وفي المناسبة، هذه بنود وتفاهمات تضمّنها مسار أستانة بين الدول الضامنة منذ العام 2017، وعلى ما يبدو بدأت تركيا وروسيا تطبيقها في الوقت الحالي بعد نفاد صبرهما من الولايات المتّحدة، واستغلال انشغالها بملفَي الانتخابات الأميركية والحرب في غزّة.
من هنا، لاحظ السوريون في الشمال السوري اقتراب حزمة تسوياتٍ ستحدُث على حساب تطلّعاتهم، تقود، في نهاية المطاف، إلى تصفية قضيتهم كلّياً، لاسيّما أنّهم يعيشون تحت وطأة استبداد محلّي بعد مصادرة قرارهم، وتحييدهم عن المشاركة في إدارة مناطقهم، أومشاركتهم في صناعة القرار، بل يعلم الجميع أنّ الشمال السوري مُدار من طريق الوصاية التركية من مندوبين ومترجمين، وحكومات شكلية تُدار من قبل أشخاص تمّ تعيينهم وفرضهم على ملايين السوريين، وما زاد حالة الغليان وسط البؤس الذي يعيشون فيه، موجة التصريحات، التي صدرت قبل أسبوع من وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بشأن مشروع دمج المعارضة مع النظام، بهدف محاربة الإرهاب، وتصريحات الرئيس رجب طيّب أردوغان عن الترحيب بعودة العلاقات مع دمشق في المستويَين، الرسمي والعائلي، الأمر الذي زاد من حالة الحنق الشعبي، الذي انفجر بشرارة العنصرية المتنامية ضدّ السوريين في تركيا، التي تزامنت مع موجة ترحيل قسرية لسوريين في ولاية غازي عنتاب تحت غطاء مكافحة الهجرة غير الشرعية.
حقيقةً، لم يكن متوقّعاً أن يكسر السوريون موانع الجغرافيا التي رسمها الساسة، فقد تلاقت أصواتهم وأوجاعهم من قلب الأناضول في تركيا إلى أقصى نقطة في الشمال السوري، وظهر التلاحم الشعبي وموجات التضامن العابرة للحدود من دون أيّ اكتراث بالعواقب والنتائج، وربّما هو الأمر الذي يُفسّر ظهور بعض السلوكيات غير المنضبطة الناتجة من الانفعال، وفي الوقت نفسه، هو الأمر الذي فاجأ صنّاع القرار في تركيا، ووضَعَهم أمام تحدّيات جمّة. فبعد حزمة المطالب، التي أظهرتها القوى المدنية والسياسية والثورية في الشمال السوري، التي أكّدوا فيها ثوابت ومبادئ ثورتهم، اتّضح أنّ المُهمّة أمام تركيا باتت صعبة، ولم يعد ممكناً تجاهلهم أو تخديرهم أو الالتفاف على مطالبهم، كما في السابق، لا سيّما أنّ المطالب شملت السوريين في تركيا وسورية معاً، من دون أيّ فصل بينهما، وهذا معناه أنّ مسائل التجاوز والتراخي في شؤون ومصير السوريين لن تمرّ بعد اليوم من دون ردّ أو حساب.
حادثة الاعتداء على سوريين في قيصري مفصلية في تاريح ثورة السوريين، وحرّكت المياه الراكدة من تحت أقدام المسؤولين، السوريين والأتراك
كل ما سبق عن الشمال السوري كان تعبيراً ونتاجاً لأخطاء تراكمية، ولسلسلة تجاوزات في حقّ السوريين، مورست عليهم طيلة سنوات من منتفعين سوريين متصدّرين في المشهد السياسي والعسكري، وهؤلاء باتوا معروفين للقاصي والداني باستبدادهم وظلمهم وارتهانهن المطلق للخارج كتركيا، أو غيرها من الدول التي تحاول الاستثمار في ملفّ الشمال السوري. واليوم، وبعد ما جرى من تطورات وعناصر مفاجئة، وبعد خلطٍ للأوراق، أضحى إحداث التغيير ضرورةً وحاجةً ملحّة لتركيا، انطلاقاً من حماية أمنها القومي، وصولاً إلى المصالح الأخرى التي تربطها مع سورية. وهنا، لا بدّ من التذكير بأنّ لتركيا الحقّ في تنويع أو تطبيع علاقاتها مع أيّ دولة تشاء، فهذا شأنها الخاص، ولا يحقّ لأحد أن يقول لا أو نعم. لكن تحديداً في ملفّ الشمال السوري، لا يحقّ لها أبداً تطبيق أيّ تفاهمات من دون الاتفاق مع أو موافقة السوريين، بسبب أنّ العلاقات معها أصبحت وجودية، والمصير غدا مشتركاً وقدراً حتميّاً، وهي التي اختارت ذلك.
تبدو المهمّة صعبة أمام تركيا، خصوصاً أمام ما تعانيه من تحدّيات داخلية وخارجية، لكنّ هذا لا يعني الاستمرار في سياسة التراخي، وغضّ الطرف عما يحدث للسوريين، سواء داخل تركيا أو خارجها، ويتّفق الخبراء على أنّ تركيا تمتلك أدواتٍ تستطيع من خلالها معالجة جذور الأزمات انطلاقاً من تفعيل القانون لتجريم العنصرية وخطاب الكراهية، وصولاً إلى تغيير الحوكمة في الشمال السوري، وسماحها بالتغيير المطلوب، حيث تمتلك مؤسّسات ولجانا تعمل بشكل لامركزي، وتستطيع من خلالها تحقيق مطالب السوريين، وكسبهم لصفّها بدلاً من معاداتهم وخسارة ثمانية ملايين سوري، وهؤلاء، من منظور تاريخي، بإمكانهم النهوض بدول وحضارات، فلا تستهينوا بنا.