ترشيد الاقتراض وترشيد السياسات

ترشيد الاقتراض وترشيد السياسات

25 اغسطس 2022
+ الخط -

في الشرق الأقصى أخبار لا نسمعها كثيرا، أو ربما تمر أمامنا عبور الكرام، فمثلا منذ عدة أسابيع، طلبت الهند من سريلانكا عدم السماح لسفينةٍ صينيةٍ بالرسو في الموانئ السريلانكية، لأنها تمارس أنشطة تجسّس لصالح الصين، الميناء السريلانكي تشغله شركة صينية. وذكرت بعض وسائل الإعلام الهندية أن تلك السفينة تقوم بعمل مسح وجمع معلومات تساعد في عمليات إطلاق الصواريخ الباليستية، وجدير بالذكر أيضا أن الصين من أكثر الدول التي قدّمت مساعدات لسريلانكا في السنوات الأخيرة، ولديها استثمارات عديدة عملاقة داخل سريلانكا، ما جعلها نافذة التحكّم في عدة قطاعات داخل سريلانكا. وتتوجّس مقالات أخرى في الهند من تنامي النفوذ الصيني في سريلانكا قبل الأزمة التي شهدتها البلاد أخيرا وبعدها، خصوصا بعد هروب الرئيس راجاباسكا. وفي الاتجاه المقابل، أعرب كتّابٌ وسياسيون سريلانكيون عن قلقهم من تزايد النفوذ الهندي أخيرا داخل بلدهم.

دائما ما يفرض الدائن شروطه على المستدين، ومع الوقت، يكون هو الحاكم الفعلي والمتحكّم في أمورٍ عديدة، قديما في المدارس قالوا لنا في حصة التاريخ عن مرحلة الاستدانة في عهد الخديوي إسماعيل ثم توفيق، وهي الفترة التي سمحت بالتدخلات الخارجية للدول الدائنة، إلى أن فقدت مصر حصتها في قناة السويس، بعد تراكم الديون وسوء ادارتها، ثم تطور الأمر إلى الاحتلال البريطاني الكامل لمصر والسودان عام 1882 بهدف إدارة الموارد المصرية من أجل سداد الديون وفوائدها، على الرغم من أنه كانت لدى الخديوي إسماعيل رؤية شاملة، وكان يرغب أن تكون مصر قطعة من أوروبا أو أفضل حالا. ورغم أزمة الديون، أطلق مبادرات إصلاحية وذات حداثة مهمة وعديدة، وأنشأ مشروعات عديدة عملاقة، مهمة لمصر حتى اليوم.

العلاقات بين الدول الدائنة والمدينة يكون فيها استغلالٌ كثير، فليس هناك من يمنح مساعدات بدون مقابل، فمثلا كانت العلاقة بين الهند وسريلانكا متوترة فترات طويلة، خصوصا في أثناء الحرب الأهلية في سريلانكا ومساعدة الهند المتمرّدين التاميل الذين تربطهم بالهند علاقات ثقافية وتاريخية قديمة، ولكن يبدو أن الأزمة الاقتصادية في سريلانكا خلال الأعوام القليلة الماضية أعطت فرصة كبيرة للهند لتطبيع علاقتها مع الحكومات في سريلانكا، ثم بسط النفوذ في قطاعات حيوية عديدة. ويذكر أن هتافات كثيرة، في التظاهرات التي أدّت إلى استقالة الرئيس، ندّدت بالتدخل الهندي في البلاد.

دائما ما يفرض الدائن شروطه على المستدين، ومع الوقت، يكون هو الحاكم الفعلي والمتحكّم في أمورٍ عديدة

ليست الهند وحدها من تستغل الأزمة الاقتصادية في سريلانكا لبسط نفوذها، فهناك العملاق الصيني بالطبع، والذي له تحرّكات واسعة في القارّة بشكل عام. أقرضت الصين سريلانكا مبالغ كبيرة لبناء مشروعات خدمية وبنية تحتية بمبالغ باهظة، اعتبرتها المعارضة إهدارا لموارد سريلانكا أو غير ذات منفعة فعلية. وتتحدث مواقع إخبارية عديدة عن عجز سريلانكا عن سداد ديونها للصين، ما أجبرها على تسليم عقد إيجار بعض الموانئ والمشروعات لشركات صينية 99 عاما.

كانت سريلانكا منذ عدة أعوام تصنّف ضمن الاقتصادات الواعدة، وكانت منشورات وأبحاث اقتصادية دولية عديدة تعتبرها تجربة ملهمة للآخرين في جنوب شرق آسيا، وكان دخل المواطن في سريلانكا يشهد ارتفاعا متناسبا مع النمو الاقتصادي، لكن هذا كله تأثر كثيرا بأزمة كورونا وانكماش الاقتصاد العالمي، وتضاعف التأثير السلبي مع الفساد وسوء إدارة المواد والإفراط في الاقتراض. وبعد استنفاد الاحتياطات الأجنبية، جرى خفض التصنيف الائتماني لسريلانكا، فحرمت البلاد من الاستثمارات الخارجية فأدّى ذلك إلى تفاقم الأزمة.

في الفترة الماضية، زادت تصريحات لبعض إعلاميي الموالاة في مصر، ينصحون الناس بترشيد الإنفاق والاستغناء عن سلعٍ كثيرة، ويوجهون الجمهور بالتخلي عن كل ما يمكن اعتباره غير ضروري. يشبه هذا الخطاب ما كان يجري ترويجه في العهد الناصري، واستمر في عهد أنور السادات بضرورة "شدّ الحزام على البطون"، وضرورة ترشيد الانفاق، من أجل الوطن، الخطاب الذي يحمّل الشعب أسباب الأزمة، ويرى المواطنين هم المشكلة، وليس سوء الإدارة.

تكثيف دعوات الترشيد يعدّ مؤشّرا إلى وجود أزمة كبيرة قادمة أو موجودة بالفعل

يرى بعضهم أن تكثيف دعوات الترشيد يعدّ مؤشّرا إلى وجود أزمة كبيرة قادمة أو موجودة بالفعل. ولكن الاستنتاج لا يحتاج مجهودا كبيرا، فالجميع يشعر بالأزمة المتزايدة، الحكومة المصرية بدأت في تقييد الاستيراد بهدف المحافظة على العملة الصعبة، ولكن ذلك أيضا أثّر بالسلب، وساهم في تفاقم الوضع وزيادة الأسعار وتكلفة الإنتاج. بدأت الحكومة أيضا في تقليل استهلاك الكهرباء في الشوارع والميادين الرئيسية في جميع المحافظات، والتي أصبحت مظلمة ليلا، والطرق الرئيسية أيضا أصبحت مظلمة ليلا.

أعلن رئيس الحكومة أن ذلك من ضمن خطة ترشيد النفقات الحكومية بشكل عام، ولكن تحليلات أخرى ترى أن ترشيد استهلاك الكهرباء يتزامن مع تقليل الاعتماد على محطّات الكهرباء التي تعمل بالغاز، وعودة الاعتماد على التي تعمل بالمازوت والوقود السائل، وذلك بهدف إيجاد فائض للغاز الطبيعي، يصلح للتصدير وضخّ دولارات جديدة للخزانة المصرية.

إذا صحّت تلك التحليلات، فربما تكون، نظريا، خطة جيدة لزيادة احتياطي النقد الأجنبي، كذلك ما يقال عن ترشيد الإنفاق الحكومي وترشيد الاستيراد فيه كثير من الوجاهة، ولكن ذلك كله يتنافى مع ما لا يزال مستمرا من طلب مزيد من القروض من أجل إنفاقها في مشروعات بنية تحتية ربما لا تكون من الأولويات، ولا تتفق الخطابات الحكومية المعلنة ببدء ترشيد الإنفاق الحكومي مع ما نراه على أرض الواقع من استمرار البذخ في مظاهر ومناسبات سياسية احتفالية عديدة.

التوجهات السياسية والاقتصادية للسلطة الحاكمة في مصر مستمرّة بدون أدنى تعديل أو مراجعة

وبالتوازي مع ذلك، أعرب مدوّنون وكتاب كثيرون ومتابعون للشأن المصري عن التخوف من خطة الحكومة لبيع أصول وموانئ وفنادق ومشاريع كبرى، حيث يعيد ذلك إلى الأذهان هواجس سيطرة الدول المانحة على الاقتصاد، وتدخلها في قراراتٍ عديدة، فتطوير وإعادة هيكلة الشركات المتعثرة أفضل كثيرا من البيع، فذلك يعيد إلى الأذهان مرحلة الإفراط في الخصخصة وبيع الأصول الاستراتيجية في عهد حسني مبارك.

بالتأكيد لا يرغب أحد في أن تتدهور الأحوال إلى ما لا تُحمد عقباه، ولذلك يجب دائما تذكير ونصيحة من يدير الأمور بخطورة الاستمرار في تلك السياسات، رغم التحذير من ذلك السيناريو منذ سنوات طويلة بالفعل، وقد صدر بيان، أخيرا، من الحركة المدنية الديمقراطية التي تمثّل أحزابا من المعارضة الرسمية بالمعنى نفسه الذي يحذّر من استمرار السياسات الاقتصادية الحالية والتوجه إلى بيع أصول الدولة أو السعي نحو مزيد من القروض، وهي الأحزاب التي بينها وبين السلطة قنوات اتصال وحوار قائم، بالإضافة إلى تمثيل تلك الأحزاب في البرلمان بعدد ليس قليلا من النواب.

ولكن لا يبدو أن هناك من يتلقى تلك الرسائل أو النصائح، فالتوجهات السياسية والاقتصادية للسلطة الحاكمة مستمرّة بدون أدنى تعديل أو مراجعة، كما أن الحوار الوطني الذي كان مزمعا عقده في الفترة الماضية لم يتم عقده، وتزداد الرؤية بشأنه غموضا. ولذلك ليس ترشيد الاستهلاك الذي تطالب به الحكومة هو الحل السحري للأزمة المزمنة، قبل ذلك لابد من ترشيد القروض وجعلها في أضيق الحدود، والأهم ترشيد السياسة وجعلها أكثر رشادة وعقلانية.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017