تحوّل الموقف الأردني تكتيكي أم استراتيجي؟
ثمّة ارتياح كبير في أوساط واسعة من الرأي العام الأردني للموقف الرسمي المتصاعد القوي ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة؛ لكن السؤال المهم الذي يُطرح على نطاق واسع هنا في عمّان؛ فيما إذا كان هذا الموقف تكتيكيا أو قصير المدى؛ أم أنّه استراتيجي ويعكس تحوّلاً في الإدراك الأردني للعلاقة مع الإسرائيليين، وبالتالي هو متوسّط وبعيد المدى أو استراتيجي؟
قد يكون الجواب على السؤال مركّباً وغير مكتمل؛ فمن جهة هنالك إدراك استراتيجي أردني بوجود مشكلة وأزمة بنيوية مع التغيّرات الكبيرة في الوسط السياسي الإسرائيلي الذي شهد انحيازاً كبيراً لمنطقة اليمين الديني والمحافظ، ولم يعد هنالك أيّ وزنٍ يُذكر لتيارات الوسط والاتجاهات العلمانية التي تُعارض الصهيونية الدينية، مع تراجع كبير في أيّ أملٍ حقيقي بحل الدولتين، بالرغم من استمرار الحديث عنه، إلاّ ضمن شروط معينة تلغي أي معنى لهذا الحل بصورة واضحة.
الإدراك الأردني الذي نضج وتدحرج بصورة متراكمة، منذ إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي قدّم صفقة القرن، التي تعني "تصفية القضية الفلسطينية"، وتعزّز أيضاً مع إدارة الرئيس جوزيف بايدين، التي جاءت خالية الوفاض من أيّ خطة وتصوّر لحل القضية الفلسطينية، باستثناء حلول أمنية واقتصادية، مع الانتقال إلى محاولات بناء "سلام إقليمي"، وتطبيع العلاقات مع الدول العربية من دون حلّ سياسيٍّ نهائي للقضية الفلسطينية.
يبدو أنّ ما رفع الردّ الأردني إلى مستوىً غير مسبوق وجود مؤشّرات ورسائل سياسية بسيناريوهات الترانسفير القسري (في غزّة وفي الضفة الغربية لاحقاً)، وضغوط على الأردن بدورٍ ما في الضفة. وهذه ليست المرّة الأولى التي يجري فيها التلميح والتلويح بذلك أميركياً وإسرائيلياً، لكنّه اليوم قيد العمل والتطبيق، وهو الأمر الذي وقف في وجهه الأردن بصورة جدّية وصلبة، وأعلن أنّ أي محاولة للتهجير بمثابة "إعلان حربٍ" ضد الأردن.
في ضوء هذه الوقائع والتطوّرات، قاد هذا الإدراك الجديد الموقف الأردني إلى تطوّر مهم، مختلفٍ عن المواقف الأردنية في الصراعات السابقة بين حركة حماس وإسرائيل (بالتأكيد هنالك عوامل أخرى؛ الأول المستوى غير المسبوق من الإبادة والعدوان، والثاني النخبة السياسية الحالية في دوائر القرار التي تجاوزت مقولات التيار المحافظ والمتخوف من الصدام مع إسرائيل)، بل يصل الإدراك الجديد إلى القول إنّ عدم تنفيذ المشروع الإسرائيلي في غزّة، وصمود "حماس"، بمثابة مصلحة وطنية أردنية؛ لأنّ النتيجة الأخرى تعني تنفيذ أجندة اليمين الإسرائيلي وتيار أميركي وتصوّرات إقليمية عربية متوافقة مع هذا الطرح.
ولكن إلى أي مدىً سيصل الإدراك الجديد؛ وفيما إذا كان سيتجاوز مرحلة العدوان الإسرائيلي الحالي إلى ما بعده؟ وهل سيؤدّي إلى استدارة في المنظور الأردني لحركة حماس ودورها وعلاقة الدولة بها، وبالتالي، يتطور الموقف نحو مرحلة جديدة، من ضمنها مراجعة السياسات الأردنية تجاه الضفة الغربية وقواعد الاشتباك السياسي مع إسرائيل؟ وفي المقابل، ما هو الموقف الإسرائيلي فيما إذا كان سيذهب نحو الانتقام والمكاسرة مع الأردن، خلال الحرب وما بعدها، أم ستأتي نخبة جديدة تحاول تلطيف الأجواء وتهدئة الموقف؟
ثمّة أمور تغيّرت، وهنالك مياه جرت تحت الأقدام، ووصل الموقف الأردني في الأزمة مع إسرائيل إلى مرحلة غير مسبوقة، منذ توقيع اتفاقية وادي عربة (باستثناء لحظة محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان 1997)، وربما حتى قبل ذلك، لكن هنالك متغيرات أخرى لا تقلّ أهمية عمّا سبق، وتتمثّل بنتائج التطوّرات العسكرية والميدانية في الحرب الإسرائيلية على غزّة، وإلى أين ستصل الأمور.
أصدر معهد السياسة والمجتمع في عمّان، قبل خمسة أشهر، تقريراً استراتيجياً بعنوان "استحقاقات نهاية اللعبة.. اليوم التالي لفشل العملية السلمية.. الأمن الوطني الأردني والفلسطينيون"، تضمّن قراءة في وقائع ورشتي عمل مهمّتين ضمت نخبة سياسية أردنية وفلسطينية من الضفة الغربية والداخل (1948). وأكّد أن الوضع الحالي بمثابة مفترق طرق، وأن هنالك ضرورة اليوم لمراجعة السياسات الأردنية والانتقال من مقاربة "حلّ الصراع" إلى "إدارته"، بمعنى أنّ ما يحدُث اليوم ليس استثناءً أو مفاجئاً، بل مرتبط بسياقات وشروط أدّت إليه، ودفعت إلى ولادة الإدراك الأردني الجديد.