تحدّيات مكافحة الفساد في مصر
يثير التسريب الذي ذاع، أخيراً، عن وقائع فساد في مصر أسئلة بلا عدد، خصوصاً في مناخ مجتمعي يعاني من غياب حرية تداول المعلومات، وعدم احترام موظفي الدولة مبادئ المحاسبة والشفافية، يتعلق أهمها بحجم الفساد الحقيقي مقارنة بحجم ما يتم اكتشافه، والمؤشّرات التي نخرج منها من هذه الوقائع، ومدى فعالية النظام السياسي والقانوني لمكافحة الفساد.
وتشير الاتهامات التي أثيرت في التسريب إلى تجاوزات مالية من ضباط في المؤسسة العسكرية التي تمارس دوراً اقتصادياً كبيراً، من خلال مشروعات ضخمة لبناء الطرق والجسور والمدن في العاصمة الإدارية والعلمين، كما سبق أن أثير جدلٌ بشأن الإنفاق المالي الضخم على بناء القصور الرئاسية في أماكن مختلفة، وجدوى إقامة مشروعات تحتاج إنفاقاً مالياً ضخماً. وثمة 15 واقعة فساد نشرت إعلامياً في عام 2021، تتعلق خمس منها بقيادات وضباط شرطةٍ في وزارة الداخلية، واثنتان بوزارة الصحة، قبض في إحداها على مدير مكتب الوزيرة وآخرين، وهناك إشارات إلى تورّط الوزيرة التي أبعدت عن موقعها لأسبابٍ صحية، فضلاً عن واقعتين عن موظفين في مبنى محافظة القاهرة، وأخريين تتعلقان برؤساء أحياء في القاهرة والإسكندرية، ومستشار في النيابة الإدارية ومنتدب في جهاز حماية المستهلك، وواقعة خاصة بالتنقيب في الآثار واتجار نائب ورجل أعمال فيها، وواقعة تتصل بأحد رؤساء الجامعات الإقليمية، وأخرى داخل وزارة المالية.
لا يوفر المناخ السياسي حاضنةً حقيقيةً لوجود رقابةٍ مجتمعيةٍ تكافح الفساد
وتشير هذه الوقائع إلى عدة دلالات، أهمها: أغلب وقائع الفساد التي تم اكتشافها من نوع الفساد الكبير والمنظم، لشبكات متعدّدة داخل الهيئات العامة ووزارات الدولة، وصلت فوائد هذا الفساد والتربّح المالي إلى ملايين الجنيهات، من خلال جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والتربّح من الوظيفة العامة وصلت في إحداها إلى طلب رشاوى من هيئات أجنبية. توسّع هذا الفساد أفقياً في محافظات مختلفة، ورأسياً من أعلى السلّم الوظيفي إلى أسفله، وشمل هيئاتٍ متعدّدة داخل أجهزة الدولة في القاهرة والمحافظات الأخرى، بما فيها هيئات قضائية ورجال أعمال ونواب. وتشمل وقائع الفساد في السنوات الخمس السابقة إدانات قضائية لعدد من المسؤولين، منهم وزير الزراعة ومحافظا المنوفية والشرقية وبني سويف ومساعدون لمحافظ الإسكندرية ورئيسا مصلحتي الجمارك والضرائب وبعض القضاة، وهذا إيجابي لكنه غير كافٍ.
وحدها هيئة الرقابة الإدارية كشفت هذه الوقائع. ويلاحظ غياب الهيئات الرقابية الأخرى التي كان لها دور سابق في متابعة هذه الوقائع في الوزارات وهيئات الدولة، ما يذكّرنا بمعركة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، حيث ووجه بحملةٍ إعلاميةٍ حكوميةٍ بعد حديثه عن فاتورة الفساد، ثم القبض عليه وإصدار محكمةٍ عسكريةٍ حكماً قضائياً بحبسه خمس سنوات، بتهمة ترويجه معلوماتٍ خاطئة عن القوات المسلحة.
في السياق نفسه، لا يوفر المناخ السياسي حاضنةً حقيقيةً لوجود رقابةٍ مجتمعيةٍ تكافح الفساد، خصوصاً في غياب الفصل بين السلطات، والتماهي بين مجلسي النواب والشيوخ مع أجهزة الدولة، وغياب أي دور رقابي فاعل على السلطة التنفيذية، خصوصاً في توجيه الاستجوابات وسحب الثقة. وترصد التقارير الدولية أن هناك هيئات متعدّدة، منها الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية وجهاز الكسب غير المشروع ونيابة الأموال العامة، إلا أنها تفتقر إلى الاستقلال الكافي عن الحكومة، كما تفتقر بعض الهيئات الأخرى إلى صلاحياتٍ حقيقيةٍ في الملاحقة القضائية للمتورّطين. فضلاً عن ذلك، يسمح نص المادة 189 من الدستور للبرلمان بالالتفاف على السماح للنيابة العامة بتحريك الدعوى الجنائية ومباشرتها، باستخدام نص "عدا ما يستثنيه القانون".
لن تتم مكافحة الفساد بشكل حقيقي إلا بتبني ديمقراطية المشاركة للجميع
ويفرض دستور 2014 على الرئيس ورئيس الوزراء وأعضاء الحكومة والنواب التزاماً بتقديم إقرار ذمة مالية عند تولي المنصب والخروج منه. ولا تشمل هذه الآلية مسؤولين كثيرين يجعلهم ميدان عملهم معرّضين فعلياً للرشوة والإثراء غير المشروع، كما لم يطلب الدستور نشر إقرارات الذمّة المالية لأعضاء مجلس النواب في الجريدة الرسمية على غرار رئيس الوزراء وحكومته. فضلاً عن ذلك، تعيق تشريعات كثيرة هذه المهمة، خصوصاً بصدور القانون 89 لسنة 2015، والذي يسمح لرئيس الجمهورية بعزل رئيس أي هيئة رقابية أو مستقلة في عدة حالات، منها المساس بأمن البلاد وسلامته أو فقده الثقة واﻻعتبار، أو الإخلال بواجبات وظيفته، بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد، وكلها نصوصٌ ذات صياغة عامة، وتسمح بتدخل السلطة التنفيذية في استقلال هذه الهيئات، ما يمنعها من القيام بوظائفها الحقيقية.
في النهاية، لن تتم مكافحة الفساد بشكل حقيقي إلا بتبني ديمقراطية المشاركة للجميع، بتغيير المناخ السياسي الحالي الذي يركّز على هيمنة السلطة التنفيذية من خلال قبضتها الأمنية والإدارية على كل مؤسسات الدولة، ومنها السلطتان التشريعية والقضائية، بما يؤدّي إلى الإخلال بالاستقلال الإداري والفني والمالي لهذه الهيئات، فضلاً عن تهميش المجتمع المدني، وغياب أي حمايةٍ للمبلغين والشهود. ومن الضروري فتح المجال للإعلام المستقل، وتبنّي نظام انتخابي يؤدّي إلى تمثيل كل الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها، وإبعاد الأمن عن التحكّم في مجريات العملية الانتخابية، واحترام استقلال السلطة القضائية، واستقلال الهيئات الرقابية، ومنها الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية، وإصدار قانونٍ بمكافحة الفساد يتواءم مع التزامات الدولة المصرية بموجب الاتفاقيات الدولية، وإنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، تملك صلاحيات حقيقية للتحقيق في هذا النوع من الجرائم وإحالة المتورّطين فيها إلى القضاء، وإصدار قانونٍ يحترم حرية تداول المعلومات وتنقية التشريعات الحالية من كل النصوص التي تخلّ بهذا النص الدستوري.