تجربة معقدة .. المبالغة الفلسطينية حالة إنكار
بعيدًا عن التحليلات النقدية للتجربة الفلسطينية، وبعيدًا عن الفخر التاريخي، المرض الأكثر استعصاءً عند الفلسطينيين، يبدو أنها تجربة بحاجة إلى تأملٍ من نوع آخر، لا يركز على ما يُقال في الموضوع الفلسطيني، وادّعاء الأطراف، وحتى ما تمّت صياغته تاريخيًا بوصفها الرواية الفلسطينية الأكثر تماسكًا للتجربة القاسية التي مرّ بها هذا الشعب، جماعة وأفرادا. أقول هذا، لأن هناك في التجربة الفلسطينية، وعلى الرغم من الكثير الذي كُتب عنها، شيئا عصيّا على التحليل، وكأن المفردات والمصطلحات تفقد دلالاتها، عندما يتم وضعها في السياق الفلسطيني، لفهم هذا الواقع وتحليله، أو لإدراك ما تقوله القوى السياسية، أو لفهم أشكال التعبير عن المرحلة، أو عن مراحل سابقة من التاريخ الفلسطيني. لذلك يبدو الوضع الفلسطيني، في أحيان كثيرة، كأحجية غير قابلة للحل. وإذا أخذنا التعقيدات التي تمليها إسرائيل على الواقع الفلسطيني، والتداخل الذي يجعل من الوضع الفلسطيني وضعًا داخليًا إسرائيليًا، نصبح أمام دوّامة من الصعب الخروج منها بأدواتٍ تحليليةٍ تقليدية، خصوصا أن إسرائيل موجودة في كل تفصيل فلسطيني.
الفلسطينيون لا يعترفون بالهزيمة، ويتم تغطيتها بمفرداتٍ أخرى، وعندما يجري التحدث عن الهزيمة، تكون هزيمة الآخرين
يكاد لا ينجو تفصيل فلسطيني من المبالغة، وأحيانًا المبالغة الشديدة، فلا يمكن فهم مصالحة ممتنعة عن التحقق بين قوى سياسية، لا همّ لها، على مدى عقد ونصف العقد، سوى العمل على هذه المصالحة (كما تدّعي)، التي لم تأتِ، من دون أن يكون أحد الأطراف قادرًا على شرح امتناعه عن الذهاب إلى هذه المصالحة، سوى باتهام الطرف الآخر. كما أن الفلسطينيين لا يعترفون بالهزيمة، ويتم تغطيتها بمفرداتٍ أخرى، وعندما يجري التحدث عن الهزيمة، تكون هزيمة الآخرين، فقد استكانوا للمصطلح الذي صاغه قسطنطين زريق في توصيف الهزيمة المدوّية في 1948 بوصف ما جرى بـ"النكبة". وقد يبدو المصطلح أشد قسوة من مصطلح الهزيمة، لكن المشكلة فيه أنه ليس مصطلحًا سياسيًا. وبالتالي، يخفي أكثر مما يظهر، يعتّم أكثر مما يضيء. وكذلك الحال في المحطّات التاريخية اللاحقة، مثل الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، فكل مراجعات الفصائل لم تسمِ، أيٌّ منها، في وثائقها، ما جرى هزيمةً. تجد تعبيراتٍ مثل، الصمود الذي يعادل النصر، أو إفشال الهدف الإسرائيلي من الاجتياح بالقضاء على منظمة التحرير، وغيرها من تعابير تلتفّ على تعبير الهزيمة تحديدًا، وتقرّب ما جرى في بيروت من النصر الكبير، أو تُبعده في كل الأحوال عن الهزيمة.
الاستثناء الوحيد الذي يستخدم فيه تعبير الهزيمة حرب العام 1967، والتي حاول محمد حسنين هيكل التغطية عليها باشتقاق مصطلح "النكسة". وعلى الرغم من وقوعها، فشلت إسرائيل في إسقاط الأنظمة الوطنية، حسب منطق النظامين في مصر وسورية اللذيْن منيا بالهزيمة. أما الفصائل الفلسطينية فقد سمّت الحرب بالهزيمة، لأنها لم تكن طرفًا فيها، بل على العكس، هي تعتبر انطلاقتها الحقيقية جاءت ردًا على هذه الهزيمة، وأن على الفلسطينيين أن يأخذوا قضيتهم بيدهم. وإذا وصلنا إلى السنوات الأخيرة، نرى انتصارات حركة حماس المتكرّرة على إسرائيل التي حققتها عدة مرات في السنوات الماضية، في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق لقطاع غزة، والأوضاع المتردّية، والمستمرّة في التردّي.
ليس من المفهوم من أين تأتي كل هذه الثقة الفلسطينية بالنفس، في تكوّن شعب، من شتات شعب
وإذا ذهبنا أبعد قليلًا من السياسة، نرى أن الفلسطينيين يفتخرون بأنهم أكثر الشعوب العربية اكتمالًا، وكانوا يفتخرون بأنهم أكثر الشعوب ديمقراطية، طبعًا، قبل إقامة السلطة الوطنية. وكان ياسر عرفات يفخر بـ"ديمقراطية البنادق" الفلسطينية. مع بناء السلطة، وعلى الرغم من الرقابة عليها واعتمادها على المساعدات المالية، إلا أنها بنت سلطتها كأخواتها العربيات، مع أنها سلطة حكم ذاتي متواضع محدود الصلاحيات. ولم يكن من الغريب أن يقتل الأمن الفلسطيني أول معتقل في الضفة الغربية بعد بناء السلطة مباشرة. وليس من المفهوم من أين تأتي كل هذه الثقة الفلسطينية بالنفس، في تكوّن شعب، من شتات شعب.
صحيحٌ أن خطر الإزالة والمحو عن الخريطة كان الدافع الأساسي لتكوين الوطنية الفلسطينية التي تكونت، بشكل أساسي، في مخيمات المنافي، لكن "المخيال الاجتماعي" الذي ولّد هذه الوطنية من مواد هشّة افتقر إلى الواقع الذي يدعم هذا المخيال بتلاحماتٍ موضوعية. لأن الفلسطينيين كانوا تجمّعات سكّانية تحت سلطات ودول مختلفة، وما زالوا، ولأن المتانة الوطنية لا تأتي من المخيال الاجتماعي فحسب، فإن الوطنية الفلسطينية التي بدت قوية جدًا لـ"شعب جبار" سرعان ما تبيّن هشاشتها مع اختبار الواقع.
كان تضخيم الذات آلية دفاعية للفلسطينيين بوصفهم ضحايا في مواجهة طيف المخاطر التي تأتيهم من كل مكان
نعم، ظهر الفلسطينيون في مفاصل تاريخية عديدة، موحّدين في مواجهة مخاطر الإلغاء التي أسفرت عن مذابح ضدهم في وطنهم وفي بلدان أخرى، وكان الخطر الموحِّد الأساسي، والجامع بين التجمعات الفلسطينية التي ليس بينها تواصل جغرافي. وشمل الخطر الجميع، وهول الخوف الذي ولد من التهجير الأول الذي ورثه الآباء ونما مع الأولاد الذين أول ما اكتشفوا، في هويتهم الوطنية، أنهم الطرف الضعيف في المكان الذي يعيشون فيه، سواء كانوا يعيشون على أرض وطنهم أو في المنافي. وكان تضخيم الذات آلية دفاعية للفلسطينيين بوصفهم ضحايا في مواجهة طيف المخاطر التي تأتيهم من كل مكان. والصورة التي باتت عندهم عن أنفسهم هي "صحيح أننا ضحايا، لكننا أقوياء، حتى أقوى من أعدائنا".
خرج أبي الفلاح من فلسطين في 1948 وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان لديه خمسة أطفال، وهو رجل قوي البنية. منذ وعيت على الدنيا، وأبي يروي النكبة بطريقته، ويكرّر تفصيلًا يقول: "اليهود جبناء، أنا ببطح (أهزم) أقوى واحد فيهم". وأنا طفل، اعتقدت أن أبي يستطيع هزيمة أي شخص في العالم، ولم أكن أسأل الأسئلة اللازمة. وعندما كبرت قليلًا، وبدأت أعي الحياة، سألته: "أبي، إذا هم جبناء وعملوا بنا هذا كله، ماذا كان يمكن أن يكون وضعنا لو كانوا شجعان؟!". يصور منطق أبي الصراع كأنه شجار في زقاق، وليس صراعا على مستويات وأعماق مختلفة. أربك السؤال أبي المسكين وأدهشه. ببساطة، لأن أحدا لم يُسائل روايته التي كرّرها عقودا. والحالة الفلسطينية تشبه حالة أبي. هي مبالغة شديدة، للتغطية على واقع قاسٍ وصعب ومرير، وهي مبالغةٌ وظيفتها أن تنتج حالة إنكار جماعية للواقع الفلسطيني، فقد كانت هذه المبالغة اللاصق الذي عمل على تماسك الصورة الذاتية للفلسطينيين عن أنفسهم، لكنها، في الوقت نفسه، غطّت على التردّي الذي تراكم، إلى درجةٍ بات يهدد الهوية الوطنية الفلسطينية التي تشكلت بعد 1948. لا يُكتب هذا الكلام هنا من أجل إدانة التجربة الفلسطينية، بل لأني أعتقد أنه بات ملحًا مساءلة هذه الهوية، وفي العمق، وقبل فوات الأوان.