تأسرل السلطوية العربية
كثيرة الأوهام التي كشفتها وعرّتها السنوات العشر الأخيرة من تاريخ العرب، سواء كان الأمر على مستوى بنية السلطة العربية، أو على مستوى ترهّل المعارضات والنخب، أو تعرية "المقاومات" وتوابعها، أو حتى المجتمعات التي تكشّفت عن أمراض وتفسّخات وانحلالات كثيرة. إلّا أنّ أكثر ما يثير الانتباه في الحالة العربية اليوم، ليس فقط حجم الإجرام الذي صدر عن السلطويات العربية في تعاملها مع شعوبها، بل أيضاً الطريقة التي أصبحت الشعوب العربية تنظر بها إلى هذه السلطات وتتعاطى معها، وهو من أهم التحوّلات التي ينبغي رصدها والتفكّر في دلالاتها وتحولاتها.
قبل الربيع العربي، كانت إسرائيل تحتل في مخيال الشعوب العربية "أصنص" الإجرام، فهي المستوى أو النموذج الذي نقيس به إجرام أيّ سلطة واستبدادها، إذ يكفي أن يقول أحدنا للآخر "والله إسرائيل ما عملتها" حتى ندرك أنّ السلطة المعنية بالاتهام هنا قد تجاوزت حدوداً "وطنية" ليس من المسموح تجاوزها. والعبارة السابقة، على الرغم من وضوحها الظاهري هذا، تبقى تستبطن معنى مخالفاً لما يقوله ظاهرها، فهي على الرغم من إقرارها بأنّ إسرائيل "ما عملتها" فإنّها تبقى توحي وتدل على أنّ إجرام الاستبدادات حينها لم يصل بعد إلى إجرام إسرائيل التي كانت في المخيال الشعبي آنذاك هي "الشيطان الأكبر" والمقياس الذي نقيس وفقاً لجرائمه جرائم طغاتنا، إذ تبقى جرائمهم، والحال هذا "صغيرة" وأحياناً "مبرّرة" قياساً بجرائم النموذج الشيطاني بأيّ حال.
النظم العربية تساوت، وأحيانا تفوقت على إسرائيل في الإجرام
وبناء عليه، لقد عبّر الوعي الشعبي في عدة مدن عربية، بناء على مخياله هذا، عن صدمته من مستوى الإجرام الذي مُورس ضده، حين نزل إلى الشوارع مطالباً بالحرية، فشعارات من نوع "انتبه... هنا بانياس (أو درعا) وليس إسرائيل" تكشف بداية تحوّل المخيال الشعبي تجاه نظمه وإسرائيل، وتكشف أيضاً معنى إسرائيل في الوعي الشعبي العربي، وهو المعنى الذي أسبغ على السلطات العربية. ففي البداية، كانت الصدمة التي أطلقت هذا الشعار، ثم مع تطوّر العنف واكتشاف الشعوب، أنّ سلطاتها لا تقلّ إجراماً عن إسرائيل، بدأت مرحلة تسمية الجيوش العربية ومليشياتها بالاحتلال (الاحتلال الأسدي)، ثم وصل الأمر أخيراً، إلى مرحلة لم تعد إسرائيل تُذكر في هذا السياق أبداً، لأنّ هذه النظم تساوت، وأحيانا تفوقت على إسرائيل في الإجرام. ولهذا، حين بدأت إسرائيل عدوانها أخيراً على أهالي حي العمود والشيخ جرّاح في القدس، ثم العدوان على غزة، كان تعامل الشعوب العربية مع إسرائيل شبيهاً بتعاملها مع أيّ سلطة مستبدة. المفارقة الكامنة هنا أنّ "تطبيع" إسرائيل في الوعي العربي قد تمّ من مكان آخر غير متوقع، وذلك حين تفوقت السلطات العربية عليها بالقمع والاستبداد والعسف، فأصبحت إسرائيل "طبيعية" في محيطٍ محكوم باستبداد غشوم، وهو ما عبّر عنه السجال الذي تم بين سوريين وفلسطينيين بشأن إرسال بعض الفلسطينيين "تحيات" إلى بشار الأسد أو إلى إيران بعد "انتصار" غزة، لأنّ هذا أضحى يعني، في الوعي العربي المكتوي بنيران الاستبداد، وكأنّك ترسل تحية إلى إسرائيل نفسها! فإذا كانت إسرائيل مجسّدة ومتمثلة في وعينا، بأنّها قتلت وشرّدت الفلسطينيين من بلادهم، فإنّ السلطات المستبدة فعلت أكثر من ذلك، حين دمّرت أحياء بأكملها وفق سكانها الطيبين، وإذا كانت إسرائيل تمارس عنصريةً غير مسبوقة ضد الشعب الفلسطيني، فإنّ عنصرية الأنظمة تفوّقت عليها، وإذا كانت إسرائيل تعتقل وتصدر أحكاماً بالسجن على المناضلين والمطالبين بالحرية والعدالة والتحرّر من الاحتلال، فإنّ سلطاتنا العربية تفعل ذلك أيضاً، وإذا كانت إسرائيل "تتفوّق" ماضياً على نظمنا العربية بصفة "الاحتلال" فإنّ هذه الصفة باتت الشعوب العربية تطلقها اليوم على النظم التي حوّلت بلداننا إلى سجون كبيرة، مذ "احتلت" موقع السلطة فيها، بقوة الانقلاب أو الدعم الخارجي مترافقاً مع القمع اليومي والممنهج.
تبدو الشعوب العربية محاصرةً بين مستبدٍ هربت من سجونه و"محرّر" بدأت سجونه تفتك بها حتى قبل أن تتحرّر من الأول
هذا التحوّل في الوعي العربي مهم، لأنّه كسر أحد المحرّمات التي طالما فرضتها الأنظمة وأحزابها و"مقاوماتها" على وعينا، ونعني بذلك تلك المتعلقة منها بالوعي المزيف، في ما يتعلق بالمسألة الوطنية، تلك التي تجعل من استبداد "ابن البلد" وظلمه مقبولا، في حين أنّ استبداد المحتل وحده يرقى إلى الجريمة، بينما المنطق السليم يقول إنّ الجريمة تبقى جريمة، وهي مدانةٌ سواء ارتكبها ابن البلد أو الغريب، المحتل والعدو أو الصديق.
اليوم، أصبح مثبتاً في وعي الشعوب العربية ولاوعيها أنّنا محكومون بنظم "إسرائيلية" حتى في ما يتعلق بالنظم التي لم يطاولها الربيع العربي بعد (فوسائل التواصل وسهولة انتقال الأخبار كسرت سرديات هذه السلطات عن نفسها لدى شعوبها التي ترى وتقارن وتتأمل، في الوقت الذي تبدو الشعوب لسلطاتها أنّها ساكنة وخانعة، في حين أنّ الجمر يكمن تحت الرماد)، ففي الأذهان، وبعد المستوى الكبير من العنف والقمع الذي مورس خلال العقد الأخير، بات الجميع يدرك أنّ أيّ نظام عربي مهيّأ لارتكاب ما ارتكبته "النظم الإسرائيلية العربية". ولهذا، التحالف بينها وبين إسرائيل عميق وقوي، حتى لو لم تكن تقيم علاقاتٍ مباشرة معها، فهم مشتركون في وحدة المصير والبقاء، فكلّما كانت النظم أشدّ قمعاً وإجراماً، كانت إسرائيل دولة "طبيعية" في المنطقة، وكلّما لعبت إسرائيل دور الحامي لهذه النظم من السقوط، أدركت هذه النظم أنّ ظهرها محميّ، فتوغل بالقمع إلى منتهاه.
بات الجميع يدرك أنّ أيّ نظام عربي مهيّأ لارتكاب ما ارتكبته "النظم الإسرائيلية العربية"
اللافت أيضاً، في هذا السياق، أنّ المليشيات، سواء التي ولدت في سياق الربيع العربي، أو السابقة عليه، أو حتى تلك التي تقدّم نفسها تحت لافتة المقاومة أو الربيع العربي قد تأسرلت بدورها، حين أوغلت سيوفُها وطغيانها في دم أبنائها، وبنت سجونها التي بات يُقتل الأبرياء فيها تحت التعذيب. والمفارقة الثانية هنا أنّ بعض هؤلاء يقدّمون أنفسهم دعاة حرية من الاستبداد أو تحرّر من الاحتلال، لتكون الشعوب العربية محاصرةً بين مستبدٍ هربت من سجونه و"محرّر" بدأت سجونه تفتك بها حتى قبل أن تتحرّر من الأول.
لا يمكن فهم ما سبق من دون العودة إلى الجذور الأولى التي كوّنت مخيال الشعوب العربية القائم على تأليه ابن البلد وتنزيهه، وشيطنة العدو ورجمه، والتي تعود إلى بدايات القرن الماضي ومنتصفه، أو ما بات يعرف، في الأدبيات السياسية، بمرحلة التحرّر العربي، حين أعلت من شأن كلّ ما هو "وطني" وشيطنت كلّ ما هو غريب وأجنبي، بما يعني ذلك تقديس القضايا والأوطان على حساب أصحاب هذه القضايا وساكني هذه الأوطان. اليوم، يبدو أنّنا نعيش نهايات هذه المرحلة التي تتشبث سلطات "التحرّر الوطني" بالحفاظ على إرثها، فيما تناضل الشعوب التي تجاوزتها نحو مستقبلٍ يكون فيه الإنسان قبل القضية، ويتساوى فيه مرتكب الجريمة "وطنياً" كان أم أجنبياً، عربياً أم إسرائيلياً...