تأجيل إعلان جائزة محمود درويش... الخطأ والخطيئة
لا تبدو مقنعةً الأسباب التي ساقها القائمون على جائزة محمود درويش للإبداع لتأجيل إعلان الفائزين بها هذا العام، وهي الجائزة الأرفع شأناً فلسطينياً، كونها تحمل اسم واحد من أهم شعراء العربية وأبرزهم في القرن العشرين، وسبق أن فاز بها منذ إعلانها عام 2010 عدد كبير من المبدعين العالميين والعرب والفلسطينيين، منهم أهداف سويف وبرايتن براينتباخ ونعوم تشومسكي وأليس ووكر وخوان غويتسولو وسلمى الخضراء الجيوسي وصنع الله إبراهيم.
قال رئيس أمناء مؤسّسة محمود درويش، زياد عمرو، في معرض تبريره تأجيل الإعلان عن الفائزين بالجائزة التي تُعلن في ذكرى مولد درويش في 13 مارس/ آذار من كل عام، إن الحرب لم تتح المجال أمام المؤسّسة لتنظيم النشاط اللائق بإحياء ذكرى ميلاد درويش، "مع يقيننا أن شعبنا يسطّر صموداً فوق أسطوري سيخلّده المبدعون لاحقاً بأشكال متنوعة". وأظن أن هذا بالضبط ما كان يُوجب إعلان الجائزة هذا العام لا تأجيله، فحرب الإبادة غير المسبوقة على الغزّيين تتطلب روافع ثقافية مساندة تستفزّ عناصر القوة والبقاء لدى الفلسطينيين أجمعين، وعلى اختلاف فعاليّاتهم، لمواجهة التوحّش النازي الذي يهدف لاقتلاع الفلسطينيين لا من أرضهم وحسب، بل ومن التاريخ أيضاً، وقذفهم في فراغ الأمم باعتبارهم مجموعاتٍ سكّانية لا إرث لهم ولا تأثير، ولا ثقافة تصهر وجودهم في المكوّن العالمي للبشرية. ورغم أن المقارنة مُجحفة نشير هنا إلى النشاط المحمود وإنْ لم يكن كافياً، الذي تقوم به وزارة الثقافة الفلسطينية في توثيق المجزرة المفتوحة في غزّة وتأريخها، عبر إصدار كتبٍ تسرُدُ عن وقع الإبادة على الكتّاب والمبدعين في غزّة، أو إقامة المعارض التشكيلية التي تستعيد لوحات وإبداعات فنّاني غزّة، وتعيد اكتشافهم، ومنهم من قُتل تحت القصف، مثل التشكيلية هبة زقّوت، أو بسبب نقص الدواء وتعذّر العلاج مثل التشكيلي فتحي غبن، وسواهما ممن نعرف ولا نعرف.
وكان المأمول أن تتصدّر منظمّة التحرير الفلسطينية المشهد بتحويل عواصم الغرب إلى ساحات تكتظ بالفعاليات الإبداعية الفلسطينية لتذكير العالم بأن ثمّة شعباً هناك، في فلسطين، يستحقّ الأفضل، وأنّ حرب الإبادة التي تُشّن عليه تُشّن على الثقافة الإنسانية بأسرها، لكن العطب الذي أصاب هذا الجسم السياسي أقعده عن ممارسة دورٍ يرقى إلى تضحيات الغزّيين الأسطورية على أرضهم، وفي سبيل بقائهم وجودياً فيه ومن أجله.
ولا نعرف بعد لماذا لا تقوم السفارات الفلسطينية بما هو أقلّ مما نطمح على الأقل، فتترجم بعض يوميات الرازحين تحت حصار البارود والموت إلى اللغات التي توجد فيها هذه السفارات وتُحسن توزيعها، كما لا نعلم الأسباب التي تحول دون إقامة معارض تشكيلية أو أسابيع ثقافية فلسطينية هناك. ولك أن تتخيّل تأثير إقامة معرض تشكيلي للراحلة هبة زقوت التي قتلها رصاص الإسرائيليين في أروقة الأمم المتحدة، مع توزيع كتيّب يعرّف بها وبإنتاجها، ويعرض مأساة أن تكون امرأةً ومبدعةً في قطاع غزّة، وأي بطولة في أن تبقى وتبدع هناك تحت مطر الصواريخ الأسود الذي يأتي على الأخضر واليابس هناك.
كان بإمكان القائمين على مؤسّسة محمود درويش التقاط اللحظة التاريخية النادرة التي تؤكّد دور الثقافة في تماسك الفلسطينيين وتصليب هويتهم الوجودية تحت الاحتلال، وأخذ زمام المبادرة للقيام بما لم تبادر إليه السلطة الفلسطينية ومن ورائها منظمة التحرير، بإعلان الجائزة لا في رام الله بل في إحدى العواصم المؤثّرة، نيويورك أو باريس مثلاً، خلال أسبوع ثقافي فلسطيني يقدّم هذا الشعب للعالم شعباً يستحقّ الحياة، والدفاع عنه وعن وجوده، نظراً إلى مساهماته الكبيرة في الثقافة العالمية، خصوصاً أن أعضاء مؤسّسة درويش شخصياتٌ تتمتع بثقل ثقافي يتخطّى محيطها العربي، وبعضهم شخصياتٌ مرموقةٌ ومعروفةٌ في أوساط الثقافة الأوروبية، وقادرة، بقليل من الدعم ،على حشد مثقفين ومبدعين عالميين يتمتّعون بمصداقية عالية في مجتمعاتهم في أي تظاهرةٍ ثقافية يقومون عليها، لكنّ عطباً غير مفهوم في الروح الفلسطينية يبدو أنه يُلقي بظلاله السالبة السوداء على هذا الشعب، فيُقعد نخبه عما هو واجبٌ ملحٌّ، بل ويلجئهم إلى القيام بما يخالف ذلك، كأن يؤجّلوا ما يفترض أن يكون فرصةً نادرةً لإسناد مقاومة الغزّيين بما يليق بهم وبتضحياتهم.