بين خطابات عباس ومسؤولياته
لم يحمل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك أي جديد، خلافاً لما ورد في خطاباته في دورات سابقة، فقد قدّم سرداً طويلاً نسبياً (25 دقيقة) لمعاناة الفلسطينيين ومظلوميّتهم، وما يتعرضون له من قمع وعسف على يد المحتل الإسرائيلي منذ 75 عاماً، إلى جانب خذلان المجتمع الدولي الفلسطينيين وحقوقهم، وعجزه (أو امتناعه) عن تنفيذ أي من مئات القرارات التي تُنصفهم.
على الرغم مما في الخطاب من تكرار وإعادة، من الجيد أن الرئيس التزم النصّ المكتوب، ولم يخرج عنه إلا بقدر يسير جداً، ولذلك لم ينزلق إلى أي هفوة مشابهة لتلك الهفوات التي التصقت به أخيراً، مثل إصراره العجيب في مناسباتٍ عدّة على تقمص دور المحاضر في التاريخ والحديث عن المحرقة وأسبابها. وبصرف النظر عن صحّة ما ورد في خطابات الرئيس، وكثير منه صحيح، إلا أن الأمر انقلب وبالاً على الفلسطينيين في كل مرّة، وقد نشطت الدعاية الصهيونية المدعومة من مواقف الدول الغربية في تحويل الفلسطيني الضحية إلى متهم بإنكار المحرقة ومعاداة السامية، وساهم ذلك كله في الإفراج عن مأزق حكومة التطرّف اليميني العنصرية التي عمد بعض وزرائها علانية إلى التفاخر بسياسات الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وتشجيع تنفيذ مليشيات المستوطنين المحارق لردع الفلسطينيين.
من حسنات الخطاب أيضاً أنه ابتعد عن لغة المَسكَنَة التي ميّزت خطاب النكبة المعروف بخطاب "احمونا"، والذي طالب فيه الرئيس العالم بحماية الفلسطينيين من بطش الاحتلال، على غرار ما يجري الاهتمام عالمياً به من حماية الحيوانات، لكن الخطاب لم يخلُ من هفوات صغيرة بالطبع، وهي ليست زلات لسان بمقدار ما تعبّر عن خيارات سياسية، ومنها التمسّك في كل مرة يجري الحديث فيها عن المقاومة الشعبية بصفة "السلمية". ويدرك من يتابع السياسة الفلسطينية أن في هذه المفردة إدانة للمقاومة المسلحة أكثر مما تحمل من تمجيد للمقاومة الشعبية السلمية. وانشغل الخطاب في تقديم تبريراتٍ لعدم إجراء الانتخابات، محمّلاً المجتمع الدولي، وخصوصاً الغرب، مسؤولية عدم دعم الفلسطينيين في الضغط على إسرائيل، من أجل السماح بإجراء هذه الانتخابات، مع أن هذا الموقف والتبريرات التي تصاحبه هي محلّ خلاف وطني فلسطيني، في ضوء دعوة قوى وتيارات عديدة إلى تحويل الانتخابات في القدس إلى معركة وطنية، وعدم الاكتفاء باستجداء موافقة الإسرائيليين على إجرائها. ومن مآخذ يمكن تسجيلها على الخطاب إدراج مطلب دعم السلطة المالي مع القضايا الجوهرية المرتبطة بالحقوق الوطنية، وكأن هذا المطلب مساو لتلك الحقوق، إلى الإكثار من طرح التساؤلات عن عدم تدخّل المجتمع الدولي لإنصاف الفلسطينيين، والتي بات جوابها معروفاً، فالعالم لن يتدخّل من أجلك، طالما أن مصلحته لا تكمن في ذلك، وطالما أنك تستعيض عن الفعل لتحقيق مطالبك بهذا الكلام وهذه المناشدات.
وفقا لاستطلاع رأي، نسبة الرضا عن أداء الرئيس عبّاس لا تتجاوز 21%، مقابل عدم رضا 76%.
من الإشكالات التي حملها الخطاب أيضاً مطالبة العالم بدعم التوجّه إلى المحاكم الدولية المختصة، وما زال هذا التوجّه محاطاً بالشكوك، نظراً إلى الفرق الجوهري بين التوجّه إلى المحكمة الجنائية الدولية بصيغة إحاطتها بالإشعارات والبيانات، وترك مهمة تحريك الدعاوى للمدّعي العام للمحكمة، بناء على تقديراته أهمية القضية، وبين صيغة توجّه فلسطين كمشتكٍ، وباعتبارها عضواً في ميثاق روما، وهذا ما يُلزم النائب العام والمحكمة بالنظر في الشكوى. ومعلوم أن هذا الموضوع كان وما زال محلّ ضغوط مستمرّة من الإدارة الأميركية وإسرائيل على السلطة الفلسطينية لمنعها من التوجّه إلى المحكمة، أو إلى هيئات الأمم المتحدة، وفرض عقوبات عليها في حال توجهها إلى هذه المحافل.
نشطت آلة "التسحيج"، وهو تعبير محلي يعني حرفياً "التصفيق" أو الموالاة المطلقة والتأييد المسبق للرئيس، وكل ما يفعله، وخصوصاً خطابه في الأمم المتحدة، حتى قبل سماعه وقراءته، في تعداد المآثر التي جاء بها خطاب الرئيس من إقناع العالم بالرواية الفلسطينية، والردّ على زيف الرواية الصهيونية. وما غفل عنه هؤلاء أن هذا التأييد الجارف، وتحميل الخطاب أكثر مما يمكن أن يحمل بكثير، يوحي بأن هذا الخطاب هو الفعالية الأهم للرئيس، فلا يهمّ ما يفعله أو ما لا يفعله طوال العام، وليست مهمّة كذلك أحوال المؤسّسات القيادية الفلسطينية، ولا فشل لقاء المصالحة في العلمين قبل أقلّ من شهرين، ولا الاتفاقيات الأمنية العلنية والسرّية مع إسرائيل (العقبة، وشرم الشيخ، وخطّة الجنرال فنزل مثلاً)، ولا طريقة إدارة الشأن الداخلي، طالما أن هذا الخطاب يمكن له أن يفحم الإسرائيليين ويلجمهم.
يبدو خطاب عبّاس في الأمم المتحدة تعويضاً عن غياب الفعل المادّي على الأرض، أو بديلاً عن هذا الفعل، لكنه، في نهاية المطاف، محض كلام
من المهم الإشارة إلى أن خطاب الرئيس عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك جاء بعد أيام قليلة من نشر نتائج استطلاع، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية (مركز بإدارة خليل الشقاقي ومقرّه في رام الله)، ويتبين فيه أن نسبة الرضا عن أداء الرئيس عبّاس لا تتجاوز 21%، مقابل عدم رضا 76%. وكانت نسبة الرضا قبل ثلاثة أشهر 17% مقابل عدم رضا 80%، كما بلغت نسبة الراغبين في استقالة الرئيس نحو 80%، وقالت نسبة 24% من المستطلعين إن حركة فتح بقيادة الرئيس عبّاس هي الأجدر بقيادة الشعب الفلسطيني مقابل 27% يرون أن حركة حماس هي الأجدر. مع الإشارة إلى أن هذا الاستطلاع، ومعظم الاستطلاعات في الأراضي الفلسطينية، تظهر أن القائد الفلسطيني الأسير، مروان البرغوثي، هو صاحب الشعبية الأكبر بين جميع القيادات الفلسطينية من مختلف الانتماءات والتوجّهات.
سبق للرئيس عبّاس في خطابه أمام الجمعية العامة عام 2021 أن "أمهل" إسرائيل عاماً واحداً لكي تنسحب من الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، متوعّداً بإجراءات لم يفصح عنها، مكتفياً بالتساؤل عن جدوى الاستمرار بالاعتراف بإسرائيل. مضى العام من دون أي فعل ملموس، وها هو العام الثاني يمضي، والاحتلال يتكرّس أكثر وأكثر على أرض الواقع، بل تبدو السلطة بعد انقضاء العام الثاني مهتمّة بفرض سيطرتها على شمال الضفة الغربية في مواجهة مجموعات المقاومة، والاتصالات مفتوحة لاستئناف الاتصالات والتنسيق الأمني.
يبدو الخطاب، بشكل أو بآخر، تعويضاً عن غياب الفعل المادّي على الأرض، أو بديلاً عن هذا الفعل، لكنه، في نهاية المطاف، محض كلام، فهو لا يتوّج خططاً وبرامج كفاحية فعلية، ولا يمهّد لخطط مستقبلية. سيضاف الخطاب إلى ملفات التاريخ ووثائق الأمم المتحدة، وسينساه مؤيدوه ومنتقدوه، بينما تتراكم المشكلات في الواقع، ويتراكم خزّان القهر والغضب والسخط مهدّداً بمزيد من الانفجارات.