بين المعارضة والتعريض
هل بات لدى أحد شكٌّ في أن المشكلة مع عبد الفتاح السيسي تتجاوز موضوع الجزيرتين إلى ما هو أبعد وأعمق؟
السؤال بصيغة أخرى، وكما طرحته قبل 15 شهراً: التفريط في "تيران" و"صنافير" مرض أم عرض لمرض؟
اعتقادي، منذ البداية، أن التخلي عن قطعتين من لحم الوطن هو أحد تجليات عقيدة فاسدة يتأسس عليها النظام الانقلابي في مصر، تقوم على تدمير منهجي للقيم والمعاني، وتمارس إفساداً مدروساً لمفاهيم ثابتة ومستقرّة، مثل الوطنية والنزاهة والاستقامة، ليسود القبيح والفاسد على حساب كل حقيقي وناصع.
من هنا، يصبح حصر المشكلة في موضوع الجزيرتين نوعاً من التسطيح الذي يصل حد الإسفاف، وهو الأمر الذي ردت عليه هتافات المتظاهرين التي خرجت بعفوية تقول "اللي يبيع صنافير وتيران بكرة يبيع شبرا وحلوان".
هذا الوعي الفطري البسيط العميق أتمنى أن تصل إليه النخب السياسية التي عادت تبحث لها عن مكانٍ في الحراك الجماهيري المتصاعد الآن، وعليها أن تواجه نفسها بالحقيقة: بقاء السيسي يعني استمرار التفريط والبيع، و"الخيانة" على حد وصف سياسيين كانوا من غلاة التأييد للانقلاب.
والسؤال هنا: هل لو خرج السيسي الآن وأعلن أن "تيران" و"صنافير" مصريتان، سيكون جميلاً ووطنياً وثورياً؟ وهل يكفي الصياح الركيك لذلك النائب الذي كان يوزع حقائب الفلوس وصناديق السلاح على البلطجية في كارثة 30 يونيو الحضارية، لينقله من مجرم ضد الإنسانية إلى بطل قومي وزعيم وطني؟
بالقياس ذاته، ماذا عن هذا النائب ناهش الأعراض، ومكب نفايات تسجيلات الأمن لمكالمات رموز ثورة يناير وشبابه، هل صار بهتافه "تيران وصنافير مصرية" رمزاً وطنياً نبيلاً؟ وهل بات مطلوباً ومفروضاً علينا أن نصدّق أن نائباً أو سياسياً يعتبر "حماس" عدواً إرهابياً، يمكن أن يقاتل بشراسة دفاعاً عن الأرض؟
أعلم أن هذه المناسبات الوطنية الزاعقة تصلح أوعية ضخمة للغسيل، ولا مانع أبداً في أن يقرّر أحد الاغتسال وارتداء ملابس الوطنية، غير أن من المهم أن نتفق على مفهوم إنساني ومحترم لكلمة "وطنية". ودعني أكرّر لك تصوري المتواضع لهذه المسألة، وظني أن الوطنية ليست أن تحافظ، فقط، على الوطن بحدوده الجغرافية، وسلامة أراضيه، بل أن تفعل ذلك، بالقدر ذاته، والوضوح عينه، في المحافظة على الحدود الإنسانية للوطن، وضمان سلامة قواه الأخلاقية والعقلية.
الوطنية الحقة هي العدل، من دون الاستسلام لغواية الفرصة العابرة، ولوثة الانتهازية الخاطفة، والدخول في تحالفاتٍ ومواءماتٍ، غير أخلاقية، وصولاً إلى غاياتٍ، تراها أخلاقية ومستحقة، فالوطن هو الإنسان، كما هو الأرض والحدود، ولا يكون بخير إذا كان أحدهما ليس بخير، كما تظل الوطنية منقوصةً، إن تغاضت عن تقطيع خرائط الوطن الإنسانية، واستبسلت في الدفاع عن الخرائط الجغرافية.
وعلى ذلك، فإن مأساة الطلاب الستة المحكوم عليهم بالإعدام في قضية عبثيةٍ عنوانها قتل حارس قاضٍ هي معركة وطنية لا تقل في نقائها وبهائها عن معركة الدفاع عن مصريّة جزيرتي تيران وصنافير، وأيضاً لا تنفصل عنها، مثلها مثل قضية المسجونين ظلماً والمعتقلين والمطاردين في الداخل والخارج.
الوطنية الحقة مفهوم جامع، لا يعرف الإقصاء أو الاستعلاء والعنصرية، ومن ثم لا يستقيم أن تسمع أصواتاً تحتكر لنفسها وضع شروط التظاهر ضد نظام السيسي، لمناسبة موضوع الجزيرتين، أو تقرّر من المسموح له بالمشاركة ومن الممنوع.
وإذا علمت أن من يشترط ويحدّد ويحتكر صكوك الوطنية والثورية صنفٌ من البشر نام عميقاً، ومطولاً، في فراش السلطة، يحرّضها على المتظاهرين ضد انقلابها، حتى لسعته سياطها فقرّر أن يتظاهر، فإنك تكون أمام حالةٍ عجيبةٍ من الوقاحة والبجاحة والاستغفال والقدرة على قلب الحقائق.
وتصل الوقاحة إلى مستويات أبعد، حين تجدهم يردّدون مقولات الآلة الأمنية والإعلامية لنظام السيسي عن أن المعارضين في الخارج ليس من حقهم الاشتباك مع قضايا الوطن.
يدهشك أن الذين نهضوا بالكاد من فراش السلطة يردّدون حرفياً ما قاله وسجله المعارضون في الخارج، منذ أربع سنوات، واتهموا بسببه في وطنيتهم وانتمائهم من الذين يردّدونه الآن.. بل أنك لو دققت جيداً ستجد أن المطاردين، أو"الهاربين"، حسب التعبير الرقيع للعائدين من الخدمة في مطابخ الانقلاب، اضطروا للمعارضة من الخارج لأن هناك من مارس "التعريض بهم" في الداخل.
ملحوظة: معنى عرّٓض بالشخص أو الشيء أنه ادّعى عليه شيئاً يعيبه ويدينه.
وعرّٓض البضاعة أي باعها بالعرض.