بوتين يستولي على جورج أورويل
مشهورة رواية البريطاني، جورج أورويل، وعنوانها "1984". ويوم كُتبت منذ أكثر من سبعين عاماً، كان قصدها ما تتوقعه بعد مرور خمسة وثلاثين عاماً من مصائب الأنظمة التوتاليتارية. إنّها ديستوبيا بالمعنى الذي نعرفه اليوم عن الكلمة.
بطل القصة وينستون سميث يعيش في بقعة من الأرض اسمها أوسيانيا، التي لا تتوقف عن خوض الحروب ضد خصومها الدائمين، أوراسيا وإيستاسيا. يقود هذه "الدولة" زعيمٌ خالد، معروفٌ بـ"الأخ الأكبر"، وصورته منتشرة في كلّ واحدةٍ من زوايا أوسيانيا. يعمل وينستون في "وزارة الحقيقة" حيث المطلوب يومياً إعادة كتابة التاريخ والأدب، بما يتناسب مع أيديولوجيا الحزب وزعيمه الواحد الأوحد. وفي يوم، بدأ وينستون يشكّ في صحة ما يحصل حوله، فيقرّر القيام بأعمال ممنوعة، غير شرعية. أي أن يكتب يومياته على دفتر، أن يقرأ كتباً، وأن يقع في الغرام. القيّمون على الحزب شعروا بأنّ وينستون ليس على عاداته السابقة، فقرّروا أن يراقبوه، ويوقعوه في أفخاخ، ونجحوا. فأوقفوه، وعذبوه بوحشية. حتى "هدأ"، أي استسلم، و"اعترف"، وعاد إلى ما كان عليه قبل ثورته: مطيعاً لـ"الأخ الأكبر"، مؤمناً به، محبّاً له، وبصدق، من كلّ قلبه. وبعد استسلامه الكامل، يقتلونه، كما هو جارٍ في نظامهم.
وقصة وينستون هذه مليئة بابتكارات، تضيء كلها على "الأدوات الفكرية"، أو الذهنية، التي يسخّرها الأخ الأكبر، الديكتاتور، لإبقاء حكمه أزلياً. و"وزارة الحقيقة" ليست وحدها، من بين "مؤسسات" حزب القائد، الأخ الأكبر. هناك "وزارة السلام" التي تخوض حربها الأبدية ضد أعدائها الأبديين. و"وزارة الوفْرة"، المعنية بعرض إنجازات الخطط الخمسية لصناعة الأحذية، والتي تغطّي "أخبارها المفْرِحة" على القلَّة والتقشّف. و"وزارة الحب"، المعنيّة بتثبيت حبٍّ واحدٍ في الحياة، هو حب "الأخ الأكبر".
في رواية جورج أورويل (1948)، ترسو المعادلات في أذهان الجميع بأن "الحرية هي العبودية"، و"الجهل هو السلطة"، و"الحقيقة هي الكذب"
ثم لغة جديدة، اسمها "النوفلانغ"، التي تحوّلت، مع ذيوع الكتاب، إلى عبارةٍ لوصف لغة فقيرة جامدة ومتَّفق عليها، هدفها تشويه الحقيقة. ومع تضافر اللغة الجديدة وجهود الأخ الأكبر، تتحوّل الحقائق جذرياً، فترتدّ إلى حالتها البدائية. وترسو المعادلات في أذهان الجميع بأن "الحرية هي العبودية"، و"الجهل هو السلطة"، و"الحقيقة هي الكذب"، و"اثنين زائد اثنين يساوي خمسة". بلد عجيب، يعيش سكّانه بعقل "القطيع"، الذي ينوّم نفسه مغناطيسيا، في مناخٍ قاتم من العنف والكراهية والشرّ، والصراع اللانهائي. ومع الوقت، صرتَ إذا تكلّمتَ عن التوتاليتارية، لا بد لك أن تستدعي "الأخ الأكبر"، و"شرطة الأفكار"، و"الفكرة المزدوجة"، و"جريمة التفكير" إلخ.
الآن، ما الذي استحضر جورج أورويل وكتابه "1984"؟ تحوّل هذا الكتاب إلى أداة مقاومة روسية داخلية ضد بوتين قائد العدوان على أوكرانيا، فالرئيس الروسي اتخذ كل الإجراءات التي يمكن أن تضعف عدوانيته تجاه أوكرانيا. أغلق قناة "رين" المستقلة، وكذلك فيسبوك وتويتر، وأدخل عقوبة السجن لكل من يتلفّظ بكلمة "حرب" حول عدوانه على أوكرانيا بدل "عملية عسكرية خاصة"، كما وصفها بنفسه. هذا فضلاً عن "إنجازاته" في بداية عهده، حيث دمّر كبريات الأقنية والمنصّات المستقلة.
وقبل عدوانه على أوكرانيا أصلاً، كانت رواية "1984" هي الأكثر مبيعاً في روسيا (1.8 مليون نسخة). وجاء العدوان ليرفع من هذا العدد، فالكتاب اليوم يمكن أن تجده مُلْقىً في أي مكان عام في موسكو: داخل المترو، على مقاعد الحدائق العامة والجامعات .. وتسري في موسكو خبرية أنّ طلاباً شباباً يقفون خلف هذه "المبادرة". وفي إبريل/ نيسان الماضي، أوقف رجل وحُكِم عليه بالسجن، لأنّه كان يرفع يافطةً كتب عليها "الحرب هي السلام"، وهي المعادلة الأورويلية المذكورة أعلاه، واحدة من صِيَغ "النوفلانغ". أكثر من ذلك: ديميتري سيلين، مواطن روسي من سكان مدينة إيفانوفو الصناعية، أخذ المبادرة: اشترى مئات من نسخ من كتاب "1984" وضعها في صندوق سيارته، وجالَ في المدينة، متوقفاً خصوصاً في شارع تتقاطع فيه ثلاث جامعات، إذ يرى أنّ الشباب أكثر من غيرهم فضولاً .. "أمام تلك العلاقة التي تقيمها الدولة مع الحقيقة والعنف، بتسميتها حربها على أوكرانيا: العملية الخاصة... أردتُ أن أوفر للناس فرصة قراءة هذا الكتاب فيبدأوا بالتفكير جدّياً ..". هكذا يشرح ديميتري سيلين مبادرته. وهو الآن ممنوعٌ من توزيع الكتاب وينتظر العقوبة التي ستصدُر بحقه بتهمة هذا التوزيع.
قبل عدوان روسيا على أوكرانيا، كانت رواية "1984" هي الأكثر مبيعاً في روسيا (1.8 مليون نسخة)
تلك الوقائع، وغيرها، كانت هي الدافع لدى الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا لمناهضة الكتاب عبر الاستيلاء عليه. سئلتْ في مؤتمر صحافي منذ أيام: "ماذا يجب أن نقول للأصدقاء والأهل المقيمين في الخارج الذين يعتقدون أنّ حال روسيا اليوم هي مرآة للرواية الديستوبية 1984؟". فكان جواب زاخاروفا: "جورج أورويل كتبَ كيف أنّ الليبرالية سوف تقود البشرية إلى طريق مسدود. هو لم يكتب عن الاتحاد السوفييتي، إنّما عن المجتمع الذي كان يعيش فيه، عن انهيار فكرة الليبرالية .. فلنقل إنّه لم يكتب عنا، إنما كتب عنهم ..".
طبعاً، لا يحتاج جورج أورويل وكتابه الكثير من المحاماة لينْجلي قصده بروايته. هو تكلم عن الموضوع بوضوح، أنّه منذ 1930، لم يَعُد يرى في الاتحاد السوفييتي (روسيا سابقاً)، أيّ إشارة تدلّ على أنه سائر نحو الاشتراكية، وأنّه تحوّل إلى مجتمع تراتبي صارم، قمع وفئات مسحوقة، وإلى ما هنالك من كلام لا يُحصى بوضوحه. والأهم من ذلك، أنه عندما قرّر أن يشارك في الحرب الأهلية الإسبانبة (1933 - 1936)، إلى جانب الثوار الجمهوريين، لم يخْتر الحزب الشيوعي الإسباني، الموالي للسوفييت، بل "البوم"، أي الحزب العمالي الماركسي الموحّد، وهو حزب شيوعي مستقل، معادٍ للسلطة السوفييتية وقتها، المتمثلة بستالين، قرين "الأخ الأكبر".
والحال، أنّ قراءة كتاب أورويل صارت من البديهيات في روسيا. لم يَعُد بوتين قادراً على منعه .. ماذا يفعل في هذه الحالة؟ يصادره، ينفي فحواه، يجيّره لصالحه، يضرب على أوتار العالم "الليبرالي" الغربي. بذلك، يضرب بحجره عصفوراً آخر، يقول به إن السعي الأوكراني نحو تبنّي نمط الغرب السياسي، أي الديمقراطية، هو سعي فاشل. لأنّ ما ينتظره الساعون هناك هو "أزمة الليبرالية" وطريقها المسدود، التي وصفها البريطاني جورج أورويل، في روايته "1984".
يقول بوتين لشعبه، عاملاً بنصيحة رواية جورج أورويل، إنكً إذا أردتَ دوام الإمساك برقبة العباد، عليكَ أن تعشّق كذبتك الجديدة بكذبة أخرى لامِعة
وبذلك، يتحقّق ما لم يكن ممكناً لجورج أورويل أن يتصوّره، لأنّه توفي قبل ذلك، فكما أنّ "الحقيقة هي كذبة" و"الحرب هي السلام" "والحرية هي العبودية" كذلك، فإنّ "1984 هو ديستوبيا عن الليبرالية"... ووحدها تبيِّن هذه "المصادرة" أنّ بوتين هو أوفى وريث لستالين. كان يمكن أن يقول، مثلاً، إنّ الكتاب هو عن عصر آخر، عرفته روسيا عندما كانت اتحاداً سوفييتياً، عصر الستالينية البغيض الذي تسبّب بمقتل ملايين الروس والأوكرانيين. فيما عصري أنا، فلاديمير بوتين، هو عصر لا يشبه الكتاب. عصر الحرية وأعراس الديمقراطية، كما يفعل حكامنا مثلاً. لكن لا، أبى. والسبب أنّ الروس يقرأون، والكتاب في صدارة قراءاتهم. يقرأون ويلمسون لمس اليد الشبه الهائل بين واقعهم وخيال الرواية. وهم بذلك، سمحوا لبوتين، بغفلة من أمرهم، بالتحول إلى قائد لمهرِّجين، أمثال ماريا زاخاروفا، ينطقون بالعبث.
لكن مهلاً، الديستوبيا ليست حكراً على التوتاليتارية. العالم "الليبرالي" أنتج عشراتٍ من الروايات والأفلام الديستوبية عن عوالمنا التي ستنتهي بكوارث، كان للإنسان يد عظيمة فيها: المناخ، التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، العلاقات الإنسانية، السياسات المالية، الهجرات الشرعية وغير الشرعية .. كانت محورها. كما أنّ "الرقابة" التي كان يتمتع بها "الأخ الأكبر" على رعيته، هي لعب أطفال أمام المراقبة التي تخضع لها البشرية عبر الشبكة وبرامجها وتطبيقاتها. يكفي أن تلتقي على الطريق بشخص لكي يقترحه عليك موقع فيسبوك "صديقاً"... وإلى ما هنالك. ونظام الصورة والشاشة أدخل الخمول في العقول وفي المخيّلة، وتراجعت الثقافة والقراءة والمهارات الذهنية الفنية. ورؤساء الأنظمة الليبرالية يكذبون، بعيارات، كانت ذروتها مع دونالد ترامب، الذي جعل المسْبحة تكْرج وتصيب أصغرهم. والفرق بين هذه الويلات وتلك التي يعيشها مواطنو الأنظمة التوتاليتارية، أنّها كلها مكشوفة، كلها لها اسم، ونقاد شديدون، وآداب، وصحافة.
"الأوكرانيون الراغبون بالانضمام إلى تلك الأنظمة الليبرالية المأزومة، والمنْحطّة، يستحقون الموت والدمار، لأنّهم أرادوا الحرب، فيما نحن أردنا السلم".. هذا ما "