بوتين ودكتاتورية الديمقراطية
يعدّ إجراء الانتخابات العتبة الرئيسية التي تفصل بين نظامين، استبدادي وديمقراطي. مع ذلك، ثمة فرق كبير بين إجراء الانتخابات وإن كانت منتظمة، وديمقراطية مرسّخة سياسيا وقانونيا واجتماعيا. وقد وصف عالم السياسة الأميركي، لاري دايموند، الديمقراطية الروسية بـ "الانتداب الديمقراطي"، فهي نمط من الديمقراطية الشكلية التي تخوّل الرئيس مركّزة السلطة بيده بشكل قوي إلى درجة تشل فيها الحياة السياسية.
اعتمدت استراتيجية بوتين، منذ وصوله إلى سدة الرئاسة، على منع تشكل قوى سياسية مؤسساتية أو اجتماعية تهدّد سلطته، فألغى الانتخابات الشعبية لاختيار الولاة في 98 منطقة، ثم أضعف بشكل قوي المجلس الفيدرالي، عبر تنحية 89 محافظا إقليميا انتخبوا بشكل مستقل، ورؤساء المجالس التشريعية الإقليمية المنتخبين، مستعينا بنموذج طبق في عهد إيفان الرابع (1530 ـ 1584)، مكونا من سبع مناطق، يرأس كلا منها مفوّض، معظمهم من الضباط العسكريين.
انتقل بوتين بعدها إلى ضبط المجتمع المدني، فأصدر عام 2006 قانونا لتنظيم شؤون المنظمات غير الحكومية، يطالب هذه المنظمات بتقديم تقارير سنوية عن أعمالها، وإلا تعرّضت للتصفية. في أثناء ذلك، توجّه بوتين إلى ضبط وسائل الإعلام ورجال الأعمال، فاستولت الحكومة عام 2003 على آخر شبكة تلفزيونية مستقلة TVS. وبعيد الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، اتجه إلى إضعاف المجتمع المدني، والمنظمات الفاعلة فيه، لمنعها من أن تتحوّل إلى قوة قادرة على حشد التأييد الشعبي.
منطق بوتين هو منطق الأنظمة الاستبدادية التي تقدّم الاستقرار على مذبح الحرية
يصف عالم السياسة الأرجنتيني، غييرمو أودونل، هذا النمط من الديمقراطية بـ "الديمقراطية التفويضية"، والتي بموجبها تتركّز السلطة في منصب الرئاسة، وتحول دون نشوء عمليات سياسية في المؤسسات التشريعية والقضائية، إنها محاولة مدروسة لإلغاء الفصل بين المؤسسات الديمقراطية الثلاث. وبحسب أودونل، تعني هذه "الديمقراطية" أن من يفوز بالانتخابات الرئاسية يستطيع حكم البلد بالطريقة التي يراها مناسبة، وبالحدّ الذي تسمح به علاقات السلطة القائمة طوال فترة الحكم التي انتخب فيها. والرئيس هنا تجسيد للأمة والوصي على المصلحة القومية التي يتحتم عليه تحديدها، وليس ضروريا أن يشبه ما يفعله في أثناء فترة الحكم، من قريب أو من بعيد، ما قاله أو وعد به خلال الحملة الانتخابية، فقد مُنح التفويض كي يحكم على النحو الذي يراه ملائما.
تنطبق "الديمقراطية التفويضية" انطباقا دقيقا على الحالة الروسية في عهد بوتين، كما على حالات عالمية أخرى (مصر عبد الفتاح السيسي مثال آخر). وفي هذه الحالات، ينظر إلى المؤسسات التي تجري فيها العملية السياسية (برلمان، أحزاب سياسية) بنظرة الريبة، لأنها أن تقوض الاستقرار والتنمية إذا ما قويت وبدأت تطالب بدولة القانون والمؤسسات وبليبرالية إلى جانب الديمقراطية.
عاشت روسيا نوعا من الليبرالية في ظل بوريس يلتسين، غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنها سرعان ما انتهت مع وصول بوتين إلى الحكم، وامتلاكه رؤية تعتبر الليبرالية خطرا يهدّد الحياة السياسية في روسيا القائمة على تقاليد تاريخية غير منسجمة معها. وعلى مدار العقد السابق، واظب بوتين التنديد بهذه الليبرالية، على اعتبارها منتجا غربيا لا يستقيم مع الثقافة الروسية.
واظب بوتين على التنديد بهذه الليبرالية، على اعتبارها منتجاً غربياً لا يستقيم مع الثقافة الروسية
في أول خطاب له بعيد تسلمه الرئاسة عام 2000، قال بوتين "تأسّست روسيا دولة شديدة المركزية منذ البداية، فهذا أمرٌ متأصل في جيناتنا وتقاليدنا وعقلية الشعب". .. إنه منطق الأنظمة الاستبدادية التي تقدّم الاستقرار على مذبح الحرية، وهو منطق ما زال حيا من التجربة السياسية السوفييتية، حيث وجدت انتخابات تجري بشكل منظم، لكنها انتخابات لم تسمح لغير الحزب الشيوعي بالوصول إلى السلطة، ما يعني أن أحد أهم شروط الانتخابات الديمقراطية (التنافس بين قوى مختلفة) لم يكن موجودا على الإطلاق.
ما هي الأسباب التي منعت روسيا من تحقيق انتقال ديمقراطي جدّي خلال الثلاثين سنة السابقة؟ لا مكان هنا للإجابة. لكنّ ثمّة إرثا استبداديا وبنى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تاريخية ما تزال تلعب دورا رئيسيا في منع هذا التحوّل، وهو ما يتضح على المستوى الشعبي بشكل قوي، حيث لم تنشأ قوى مجتمعية رافضة للبنية السياسية القائمة، على الرغم من التطور الذي حصل في الوعي المجتمعي الروسي. وهذا الوعي السياسي المجتمعي الضعيف هو الذي سمح لبوتين بسهولة العام الماضي بإجراء تعديلات دستورية تتيح له الترشّح لولايتين رئاسيتين إضافيتين، ما يفتح باب بقائه في الكرملين حتى العام 2036. وبموجب التعديل الدستوري الذي أقرّه البرلمان، "إن الحد لتولي ولايتين متتاليتين لا ينطبق على من شغلوا منصب رئيس الدولة قبل دخول تعديلات الدستور حيز التنفيذ"، ما يعني بداية جديدة لبوتين الذي أصبح رئيسا إلى الأبد عبر نفق الديمقراطية الروسية.