جولة في كتاب عزمي بشارة "الدولة العربية منشأً ومساراً"
تنظير فكري يلامس إشكالاتٍ سياسيةً مهيمنةً على المجال التداولي العملي في حياتنا نحن العرب، هذا ما أخذه على عاتقه المفكر العربي عزمي بشارة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، فجاءت كتبه عن الثورات العربية تحلّل الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الثورات، مع توجيه ملاحظات نقدية لسلوك الأنظمة والمعارضة على السواء. وفي ظلّ الاستقطاب الهُويَّاتي في العالم العربي، جاءت ثلاثيته "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" لتقدم أجوبةً عن أسئلة ذات إشكالية على مستوى الدين والهُويَّة، فضلاً عن تصحيح المقاربة النظرية والدلالات الأيديولوجية الراسخة في الوعي الجمعي حيال مصطلح العلمانية.
ومع تعثّر الثورات، واستحالتها حروباً في بعض الحالات، ألّف بشارة كتيباً صغيراً، لكنّه ذو أهمية كبرى، حمل عنوان "الثورة والقابلية للثورة" (2012) أوضح فيه الفرق بين أسباب الثورة والقابلية للثورة، ثمّ الشروط الواجب توفّرها كي تحقّق الثورة أهدافها في إقامة الدولة الديمقراطية. ومع تعثّر عمليات الانتقال الديمقراطي في كل من تونس ومصر، خصّص بشارة كتاباً بعنوان "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة" (2020) لمعاينة الأسباب التي حالت دون تحقيق الانتقال الديمقراطي، مع تفحص النظريات والتجارب العالمية حيال عمليات الانتقال الديمقراطي.
أدرك بشارة في مراقبته حال الأمة العربية في مرحلة ما بعد الثورات ضرورة الحديث عن الدولة، فمن دون بناء دولة وطنية قوية، وديمقراطية ليبرالية، قائمة على المواطنة، لا سبيل للنهوض العربي إطلاقاً. من هذا المنطلق، جاء كتابه العام الماضي (2023) "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات"، ضمن سياق نظري يحدد المفاهيم والنظريات حول الدولة، ومن هذا المنطلق استكمل تنظيره للدولة في كتابه "الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة / بيروت 2024)، الذي خصّصه لواقع الدولة العربية، في ظروف نشأتها ومسار تطورها.
تمكين الاستعمار للنُخَب من التنافس على النفوذ في المؤسّسات قبل السيادة، ألحق تشويهاً بوعي الديمقراطية والتعدّدية الحزبية
نشأة الدولة العربية
كانت بدايات تأسيس الدولة الحديثة في السلطنة العثمانية ذاتها، ثمّ في البلدان العربية عموماً بعد انهيار السلطنة، نتيجة التفاعل مع نشوء نظام دولي حديث، يتعامل إمّا مع مستعمرات، وإما مع كيانات مستقلّة ذات إقليم ترابي. لقد قادت مقتضيات الحرب إلى بناء جيوش حديثة في السلطنة العثمانية وبلاد فارس ومصر، واقتضى ذلك تنفيذ إصلاحات أشمل، مثل إنشاء المدارس العسكرية والهندسية والطبية، لتهيئة الكوادر البشرية اللازمة للجيش والإدارة، وضبط عملية التجنيد، مع ما يتطلّب ذلك من نشوء أجهزة بيروقراطية.
وهذا يشابه إلى حدٍّ قريب ما جرى في أوروبا، حيث بدأت عملية بناء الدولة في سياق الصراعات بين الملك والأمراء خلال سيرورة تشكّل المَلَكَية المطلقة، وفي النزاعات على الأرض والحروب بين الممالك الأوروبية. هنا ينبّه بشارة إلى عدم الخلط بين التجربتَين الأوروبية والعربية، فمرحلة نشوء المَلَكيات الأوروبية المطلقة والدول المركزية في أوروبا، لم تعرف منظومةً دوليةً قائمةً تحترم سيادة الدول، ولا نموذجاً للدولة الحديثة جاهزاً للتصدير والمحاكاة، ولا دولاً عظمى متطوّرة تبيع السلاح الحديث بحيث لا تحتاج الدول إلى تطويره.
ترافقت سيرورة بناء الدولة في أوروبا عشية الحداثة مع الثورة الصناعية، أمّا الدول العربية الحديثة فتشكّلت بموجب نموذج الدولة الجاهزة، ولم تكن مضطرة للمرور بالسيرورة التاريخية نفسها، وأيّ محاولة لإسقاط النظريات المتعلّقة بنشوء الدولة في أوروبا على نشوء الدولة العربية تخطئ الهدف. جرت مركزة الدولة وبناء نظمها الإدارية ورسم حدودها الترابية في ظلّ الاستعمار من دون أن تنشأ مواطنة مع تأسيس الدولة، فالدولة كانت أجنبيةً بأكثر من معنى، وكانت الدولة الحديثة المتدخّلة في حياة الناس كائناً غير مألوف، وهكذا ورثت مرحلة الاستقلال دولةً مركزيةً من دون مواطنة، ما عدا المواطنة الشكلية، أي مُجرَّد التبعية للدولة، المتمثّلة في الجنسية.
وليس الفرق بين نشوء الدولة في الغرب والشرق في أنّها فُرِضت فرضاً في الشرق، فهي لم تكن نتاج عملية اختيار في أوروبا أيضاً، بل يكمن الفرق في أنّها بدأت في النشوء في الشرق بعد أن كانت قائمة في الغرب، ما فرض ضرباً من المحاكاة، كما أنّها لم تنشأ بالتدريج خلال سيرورة تاريخية طويلة، وقد تأسّست وأعيد تشكيلها في ظلّ الاستعمار، وهيمنة نموذج الدولة الأوروبية.
ترييف النُخَب
تاريخياً، أدّى الأعيان، إلى جانب المماليك والولاة وقادة الانكشارية، أدواراً في حكم المدن البعيدة عن المركز السلطاني، كما أدّوا دوراً وسيطاً بين المدينة والنظام المركزي في حالة المدن الخاضعة مباشرة للأمير أو السلطان. ورثت الدولة العربية دولة الاستعمار والبنى الاجتماعية القائمة، ولم ترث مباشرةً دولةً سلطانيةً، وكان مركزها المدينة، حيث النُخَب الجديدة التي نمت في ظلّ الاستعمار، وحيث الطبقة الوسطى وأعيان المدن والتجّار والمؤسّسة الدينية وموظّفو الدولة.
في مرحلة الوصاية الاستعمارية وبداية الاستقلال، كانت المشاركة السياسية قبل اكتناز المواطنة بالحقوق والواجبات، وقبل نشوء ثقافة ديمقراطية لدى النُخَب، معوقة للاندماج. لقد فُتح المجال للمشاركة السياسية، لكنّ أعيان المدن تلاعبوا بالانتخابات واستأثروا بالمناصب والمؤسّسات، وحولوها حلبةَ تنافس على الزعامات، وفتحوا أبواب المؤسّسة العسكرية أمام أبناء الريف والفئات المُقصاة عن السياسة، الأمر الذي مهّد للانقلابات العسكرية.
كان العبء على الدولة كبيراً بعد الاستقلال، إذ واجهت عمليةُ فرض سيطرتها على المجتمع وتغلغلها فيه ممانعةً شرسةً من قوى اجتماعية مختلفة قاومتها أو ساومتها. ولم يتح التنافس بين الزعامات التقليدية الذي بدأ في ظلّ الوصاية الاستعمارية، فرصةً حقيقيةً للقوى الحديثة لتحقيق تصوّراتها التحديثية، وحتّى بعد ظهور أحزاب وطنية حديثة نسبياً، ظلّت الجماعات التي حافظت على علاقاتها الوشائجية ذات الطابع الانقسامي، مثل القبائل والعائلات الممتّدة في المدن، تتّخذ مواقفَ من الأحزاب بناءً على انتماء قياداتها.
في مرحلة الاستعمار، اتخذ العصيان الجهوي طابعاً معادياً للاستعمار، أمّا بعد الاستقلال، فأصبحت التمرّدات الجهَوية تتّخذ صبغة العداء للدولة المركزية، في هذه الحالة، لا تعرقل الجماعات تشكّل الأمّة فحسب، بل تعرقل أيضاً احتكار التشريع. تختلف هذه القوى المسلّحة الفاعلة باسم جماعات طائفية، أو قبلية، أو جهَوية، عن الحركات السياسية المسلّحة الثائرة على نظام الحكم التي عرفتها بعض الدول في العالم الثالث بعد الاستقلال. أمّا بقاء البنى القبلية والأهلية الأخرى بعد التحديث من أعلى، فلا يُؤدّي إلى تغير وظيفة القبيلة والطائفة الدينية فحسب، بما في ذلك إمكانية تحويلها فاعلاً ضمن سياسات الهُويَّة، بل يُؤدّي أيضاً إلى قابليتها للاستخدام من سلطة الدولة.
صعّدت النُخَب الراديكالية بوصفها نقيضا لسيطرة الأعيان وأبنائهم المتعلّمين، ولكن هذه النُخَب ما لبثت أن تريّفت بسبب سيطرة أوساط عسكرية ومدنية متحدّرة من أصول ريفية، وقادت إلى صعود الجماعات التقليدية من جديد، ولكن بعد تغيير وظائفها في ظلّ الدولة الحديثة وإعادة إنتاجها من خلال روابط المصالح والمنافع المتوقّعة من جهاز الدولة. لقد واجهت الدولة الوطنية مسألة خضوع القبائل لسيادة الدولة بحزم عموماً، وقوّضت سلطة زعماء القبائل، وقطعت شوطاً في دمج أبنائها في النسيج الوطني. وحصل تغيير منذ مرحلة حافظ الأسد، الذي إضافة إلى تغلغل الحزب والجيش والأجهزة الأمنية في صفوفها، فضّل التعامل مع زعماء القبائل للسيطرة عليها وضمان ولائها واستخدامها عند اللزوم ضدّ حركات المُعارَضة الكردية، وضدّ الحركات الإسلامية. ولاحقاً، في تمرير الدعم والمقاتلين إلى فصائل المقاومة العراقية بعد عام 2003، فأعادت مرحلة حكم آل الأسد الحياة إلى الزعامة القبلية، ولكن تحت سيطرة الدولة.
قوننة بصيغة توفيقية في مصر
على الرغم من أن محمد علي هو الذي فرض التحديث القسري بداية القرن التاسع عشر، لكنّه بنى الدولة بأساليب عسكرية وسلطانية قمعية، وافتقر حكمه لبيروقراطية تحديثية تساهم في الحكم. ولذلك يعتبر بشارة أن تأريخ عملية نشوء الهُويَّة الوطنية مع نشوء الدولة الحديثة حدثت مع سلالة محمد علي وليس معه (من دون نكران دوره في شقّ الطريق نحو الدولة)، ففي منتصف القرن التاسع عشر، حدث تطوّر لأجهزة الدولة والبرجوازية الوطنية والمثقّفين والصحافة والنقابات والتعدّدية الحزبية والمجتمع المدني، ما أدّى إلى نشوء مُشترَكٍ بين الحكّام والمحكومين. ومع نشوء هذا المشترك، جرت أوّل محاولة دستورية تتضمّن مجلساً تمثيلياً (مجلس شورى النواب) عام 1866، وخلال سيرورة صعود المجالس النيابية، بانت أول مظاهر الفصل بين السلطات في التاريخ المصري.
بعد الاحتلال البريطاني عام 1883، تحول المفتّشون البريطانيون أصحابَ سلطةٍ عملياً، وظهر الصراع بين القوى الوطنية والقصر من جهة، والإنكليز من جهة أخرى. في هذه الفترة بدأت مصر تنفصل عملياً عن السلطنة العثمانية، وأصبح نظام الحكم فيها ملكياً دستورياً، في ظلّ وصايةٍ بريطانيةٍ عملت على لبرلة الاقتصاد والسياسة. وبعد ثورة عام 1919، نشأت قوى سياسية وطنية، ونقابات وجمعيات ونوادٍ، فأصبحت هناك ثلاث قوى: الوصاية البريطانية، والملك، والقوى الوطنية، وفي مقدمها حزب الوفد، وبقيت هذه التعددية حائلا دون الطغيان.
ومنذ عام 1938، بدأت مصر عملية وضع القانون المدني، واتخذت عملية علمنة القوانين صيغة توفيقية بين القانون المدني الفرنسي والتشريعات الإسلامية والثقافة القانونية المحلّية. بعد تولي الجيش الحكم عام 1952، غاب التمثيل النيابي لتسع سنوات، قبل أن يعود ضعيفاً وغير مؤثر، لكن الجيش قام ببناء رأسمالية الدولة الصناعية والقطاع العام، وفتح بيروقراطية الدولة أمام البرجوازية الفقيرة وأبناء الريف، فنشأت دولة وسطى في المدارس والجامعات وأجهزة الدولة، وليس في السوق.
بشارة: في حالة هشاشة الدولة، ووجود شروخ اجتماعية عميقة تخترق حتّى جهاز الدولة، يُفضَّل أن يكون تغيير النظام بالإصلاح التدريجي
الهُويَّة السياسية في تونس
في تونس، حلّت السيطرة العثمانية على السواحل الأفريقية منذ عام 1574، ثم امتدّت سيطرتهم إلى الداخل عبر الحكم العسكري، ومنذ هذه الفترة ستشهد تونس تشكّل كيان سياسي يحيل إلى هُويَّة سياسية تتّضح معالمها تدريجياً، مع تفكيك الدولة الحفصية. نشأت سلطة مخزنية تقليدية مستقلّة نسبياً، فقد كان نظام البايات سلطانياً، وتألّفت نُخْبَة الحكم من المماليك القاطنين في المدن المسيطرة على الريف، ونفذّت هذه السلطة عملية توحيد نسبي للإقليم الترابي، وحماية المدن، لإخضاع القبائل التي ظلّت متمرّدة وعصيّة على الترويض.
ومع انطلاق الانتفاضة الانكشارية (العساكر ذوي الرتب المنخفضة) بدأت ديناميكية جديدة من الصراعات على السلطة بين المماليك، وجاءت بحكم الدايات الذين نافسوا الوالي على الحكم، ثم ما لبث حكم الدايات أن تعرّض للضعف مع تزايد قوة البايات (المسؤولين عن الجباية) منذ منتصف القرن السابع عشر، إلى ان أصبحوا القوّة المُسيطِرة. واصل البايات ما بدأه الدايات في مركزة السلطة والنزوح نحو استقلالية أكبر تجاه إسطنبول، لكن على غرار محمد علي في مصر، عمل البايات على مركزة الحكم وبناء جيش محلّي وإصلاحات تعليمية وقانونية، وصولاً إلى الدستور، لكنّ نظامهم كان سلطانياً، وبالتالي، لا حديث هنا عن دولة حديثة، يقول بشارة.
في عام 1840 بدأت الإصلاحات مع أحمد باي، لكنّها إصلاحات لم تطاول علاقة الحاكمين بالمحكومين، إذ اقتصرت على تحديث الدولة فقط أساساً للسلطة. ومع ذلك، فقد شملت الإصلاحات القضاء ومؤسّسة القيادة، وصولاً إلى دستور عام 1861، أوّل ستور في البلاد العربية والإسلامية، قبل أن يُعلَّق إثر انتفاضة عام 1864.
بسبب تعاظم ديون تونس، والعجز عن تسديدها، بدأ العد التنازلي لاستعمار البلاد من قبل فرنسا على شكل نظام الحماية عام 1881. بنى الفرنسيون جهاز دولة موازياً للمخزن لنقل صلاحيات الباي إلى المقيم العام الفرنسي، ومع إنشاء السلطة الفرنسية مديريات عامّة للمالية والأشغال العامّة والتعليم والزراعة والنقل، تمكّن الاستعمار من السيرة على جهاز الدولة. وبعد الحرب العالمية الأولى شهدت تونس تظاهرات ضدّ الاستعمار الفرنسي، وقد ساهم الصراع ضدّ الاستعمار في تشكّل هُويَّة وطنية شملت المحكومين مع الحكّام.
الاستعمار المباشر والوصاية الاستعمارية
في حالة الوصاية الاستعمارية، شاركت نُخَبٌ محلّيةٌ بفعّالية في الإدارة. ولاحقاً، كان لمساهمة الحركة الوطنية في غالبية البلدان، بما فيها الثورات الوطنية، دورٌ في تسريع الجلاء ومنح الشرعية للدولة الوليدة، وأصبح دمج المجتمعات والجماعات المحلّية في شعب الدولة، أو أمّة الدولة، إلى جانب بناء المؤسّسات الوطنية، من أعقد مهمّات الدولة العربية المُستقلّة وأهمّها، لا سيّما أنّ لا الاستعمار ولا نظام الوصاية الاستعمارية، أسهما في عملية الدمج، بل إنّ أثرهما كان مناقضاً. ففي سورية مثلاً، حاولت الإدارة الفرنسية إنشاء أربع دويلات، هذا عدا فصل فلسطين وشرق الأردن والمناطق الواقعة خارج جبل لبنان.
ولا يعني هذا أنّ الصفقات الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية تقاسمت وحدة عربية قائمة، أو في طريقها إلى القيام، وجزّأتها، فلم يكن هذا هو الحال، بل إنّ المهمّ في الأمر هو فرض حدود ترابية سياسية من الخارج على مجتمعات محلّية، وجماعات قائمة، وإطلاق مسار تطوّر تاريخي يحول دون نشوء دولة عربية واحدة في الهلال الخصيب، أو في سورية على الأقلّ، وذلك بعد أن نشأ تيّار سياسي قوي يدعو إلى دولة كهذه.
سورية: تنافس على النفوذ قبل السياسة
تكوّنت الجماعات السكّانية في المشرق العربي من جماعات قبلية وريفية، وأخرى مدنية حضرية، ولم تشكّل هذه الجماعات شعوباً بأيّ معنى للكيان الاجتماعي أو السياسي. ومع النهضة الثقافية العربية، والدعوات إلى اللامركزية، والمواقف الملتبسة من انقلاب الاتحاد والترقي، الذي انطلق بخطاب ديمقراطي، والدعوة إلى مواطنة عثمانية، أصبح الوعي العربي منتشراً، وأسهمت الحكومة العربية في دمشق، والكبرياء الذي أثاره الإعلان عن مملكة عربية، في تعزيز هذا الوعي.
سقطت الحكومة العربية، وبدأ عهد الاستعمار الفرنسي فوراً بتقسيم سورية إلى دويلات من أجل تحطيم الملكية القومية المركزية السابقة. أنشأ الانتداب الفرنسي وظائف تشريعية وتنفيذية وقضائية للسلطات المحلّية، وأُخضِعت لمراقبته. وبعد قمع الثورة السورية عام 1925، لم يعد بإمكان فرنسا تجاهل واجباتها الانتدابية، فأجرت أول انتخابات عامّة عام 1928، وانتخبت جميعة تأسيسية قامت بتشكيل لجنة لصياغة دستور مستوحى من أكثر الدساتير الغربية تقدماً، ولكنّه تجاهل الانتداب وقدّم تعريفاً لسورية، شمل فلسطين وشرق الأردن.
أسقط الانتداب هذا الدستور، وأحل في محلّه دستوراً، بل دساتير لجميع الدويلات في لبنان وإسكندرون ومنطقة العلويين وجبل الدروز، وخلال هذا المسار من الإملاءات الفرنسية والرد بانتفاضات شعبية، وحلّ مجالس وانتخابات، كان ثمّة وعي وطني يتبلور، ونشأت نُخَب أكثر تمرسّاً بالسياسة، كما نشأت مؤسّسات دولة تحت الوصاية. ويرى بشارة أن تمكين الاستعمار للنُخَب من التنافس على النفوذ في المؤسّسات قبل الحصول على السيادة، ألحق تشويهاً بوعي الديمقراطية والتعدّدية الحزبية، لتبدو مناقضةً للسيادة الوطنية، أو موهنة لها.
ومع محاولة فرنسا تطبيق النموذج البريطاني في مصر والأردن، نشأت سيناريوهات تتمثّل في إقامة عرش مطواعٍ يضمن مصالح فرنسا من دون أن يُخلَّ بسيادة الدولة السورية، وتصاعدت إثر ذلك رغبات الطامحين إلى العرش. مع الاستقلال، ورثت الحكومة السورية أجهزة الانتداب القائمة ضمن الحدود السياسية التي حدّدها، وبقيت الدولة هي إطار العمل السياسي والتنموي والاقتصادي، مع فجوة بين الخطاب من جهة، والممارسة والواقع من جهة أخرى، وقد أسهمت هذه الفجوة في تفويت فرصة بناء أمّةٍ مواطنيةٍ سورية. وعلى الرغم من تأثيرات هذه الفجوة، يرى بشارة أنّ ثمّة عوامل أخرى مهمّة لعبت دوراً في تفويت فرصة بناء أمّة سورية، ومنها سوء إدارة التنوّع من جهة، واستغلاله سياسياً من جانب السياسيين في المرحلة التعدّدية، والنظام السلطوي لاحقاً من جهة أخرى.
عقلانية السلطة وعقلانية الدولة
تحدّث بشارة في فصول الكتاب عن نشأة الدولة العربية، وما نجم عنها من نشوء تدريجي لهُويَّة وطنية تجمع الحكّام والمحكومين، ثم تنامي تطلّعات الشعب وتوقّعاته من الدولة، وتصبح التزامات الدولة والتوقّعات منها مصدراً للصراعات إذا لم تتحقّق.
يؤدّي دور الدولة في عملية التنمية من جهة، والزبونية الناجمة عن التفاعل بين خيارات الأنظمة السياسية وبنية المجتمعات والثقافة السائدة من جهة أخرى، إلى تضخيم القطاع العام بما يتجاوز الحاجات الحقيقية لبيروقراطية الدولة. وحين يستخدم بشارة مصطلح الزبونية، فإنّه يشير إلى علاقة وصاية وتبعية أو محسوبية؛ فرد يقدّم ولاءً سياسياً في مقابل خدمات أو إعفاءات من واجبات، وقد أصبحت هذه العلاقة منتشرة حتّى حلت محلّ المواطنة وواجباتها. وفي هذا، سلط بشارة الضوء على عقلانية الدولة في التنمية، من حيث إنّها لا يجب أن تكون أداتيةً فقط، بمعنى قياس نجاعتها في تحقيق الأهداف بغض النظر عن طبيعة هذه الأهداف، بل يجب أن تكون الأهداف مسخّرة في خدمة الصالح العام.
لاحظ بشارة أنّ الشعوب العربية لا تحتفل غالباً بيوم الاستقلال، ولا يُنشَد النشيد الوطني في المناسبات، وغالبية الناس لا تحفظه عن ظهر قلب
هنا يقدّم الكتاب تساؤلاً في غاية الأهمية، كيف تحوّلت البيروقراطية من عقلانية الدولة إلى عقلانية السلطة؟
ميّز بشارة بين بناء الأمّة وبناء القاعدة الاجتماعية للنظام، ومشروع بناء الدولة يتحقق من خلال بناء مؤسّسات الدولة، لكن الذي حصل هو بناء القاعدة الاجتماعية للنظام الحاكم عبر ربط ضمني بين الوطنية والولاء للنظام. وينجم الضرر البالغ عن هذه السلوكيات في التخلّي عن العقلانية البيروقراطية المتعلّقة بالنجاعة في العلاقة بين الوسائل والغايات، كما ينجم خطرٌ كبيرٌ يتمثّل في أن الدولة العربية لم تغدُ إطار الأخلاق العمومية. يؤدي نظام المحاصصة غير المنظم اتحادياً إلى صراع على السلطة، ومن ثمّ على مؤسّسات الدولة، بما يُؤدّي إلى حصول على حصة أكبر من مقدرات الدولة.
التعامل مع الدولة بوصفها الحاكم يستمرّ مدّةً طويلةً بعد إنشاء الدولة الحديثة، لكنّ هذا النمط من الحكم يُؤثّر سلباً على نشوء هُويَّة وطنية. وقد لاحظ بشارة أنّ الشعوب العربية لا تحتفل غالباً بيوم الاستقلال، وغالباً لا يُنشد النشيد الوطني في المناسبات، وغالبية الناس لا تحفظ النشيد عن ظهر قلب، والأكثر أهمّية من ذلك، برأي بشارة، أنّ أنظمة الحكم غيّرت عَلَم الدولة ورموزها في حالات الثورات والانقلابات، ففي الثورة السورية مثلاً، تُبنِّيَ علمٌ مختلفٌ عن العلم الرسمي، كما شهدت بعض مظاهرات السودان حمْلَ عَلَمٍ يعود إلى ما قبل عام 1970. تشير هذه السلوكات إلى أنّ الاستمرار في ربط تغيير النظام بتغيير هُويَّة الدولة هو دليل على عدم تجذّر هُويَّة وطنية مشتركة متطابقة مع الانتماء إلى الدولة.
ويختم بشارة الكتاب بالقول إنّه في حالة هشاشة الدولة، ووجود شروخ اجتماعية عميقة تخترق حتّى جهاز الدولة، وضعف المواطنة، بوصفها عضويةً في الدولة تترتّب منها حقوق وواجبات، وضعف الهُويَّة الوطنية، في مقابل تسييس انتماءاتٍ إلى جماعاتٍ تحت وطنية، وضعف أجهزة الدولة أمنياً، يُفضَّل أن يكون السعي لتغيير النظام بالإصلاح تدريجياً، لأنّ إطاحة النظام كلّياً بالثورة، أو بالحرب من الخارج، قد تُؤدّي إلى تضعضع جهاز الدولة، وتحوّل الصراعات عليها حروباً أهليةً.