بناء حلف الناتو الشرق أوسطي خطوة خطوة
تُنبئ الجولة المحدودة الشرق أوسطية للرئيس الأميركي جو بايدن، بعد أيام، أن منطقتنا ما زالت تحتل أهمية خاصة ومتقدّمة على الأجندة الأميركية، خلافاً لتقديراتٍ أشاعتها واشنطن في مستهلّ صعود الديمقراطي، بايدن، إلى البيت الأبيض قبل أقل من عامين. وعلى الرغم من أن أياً من دول المنطقة ليست عضوا في حلف الناتو (وإنْ يتمتّع بعضُها ببعض امتيازات الانضمام إلى الحلف)، ومع أنه لا صلة لأيٍّ من دول المنطقة، بحكم الموقع الجغرافي، بأجواء الحرب الروسية على أوكرانيا وظروفها، إلا أن المنطقة تتمتع بأهمية حيوية متزايدة أملتها التطورات في عالمنا، بما يجعلها مجدّدا في قلب الاهتمامات الاستراتيجية لواشنطن. ومن هنا تكمن أهمية هذه الجولة، وتركيز الأنظار والأضواء عليها، والتي تشمل السعودية والأراضي الفلسطينية وإسرائيل. علاوة على لقاء قمّة مقرّر، يجمع الرئيس الزائر بقادة تسع دول عربية في الرياض أو جدّة، هم قادة دول مجلس التعاون الست وقادة الأردن ومصر والعراق، بما يدل على اتساع نطاق الاجتماعات رفيعة المستوى التي تشملها الجولة.
جموح إسرائيلي عدواني متواصل تجاه الحقوق الفلسطينية، ورفضٍ متغطرسٍ للأخذ بالمسار السياسي
وقد بات معلوماً أن جولة بايدن سوف تتناول تطورات المفاوضات مع طهران بشأن الملف النووي للأخيرة، وهي مفاوضاتٌ ماراثونية. وقد انتقلت، أخيرا، إلى الدوحة، في محاولةٍ ضمنيةٍ لاستثمار العلاقات الحسنة القطرية ــ الإيرانية، بهدف تحقيق اختراق في التفاوض. وسوف يكون هذا الملف حاضرا بقوة خلال محطة بايدن في تل أبيب، كما في محطّته في الرياض. وتتخذ تل أبيب موقفا متشدّدا من المفاوضات النووية، وترغب، لو أمكنها، في إفشال المفاوضات وإيقافها، وعودة واشنطن إلى الموقف الذي أعلنه الرئيس السابق، دونالد ترامب، بالخروج الأميركي من الاتفاق. وخلال ذلك، تضغط تل أبيب على طهران في صراع استخباري مفتوح، يستهدف شخصيات ومنشآت حيوية داخل إيران، مع ضغط قديم ومتجدّد على الوجود العسكري الإيراني على الأراضي السورية، واستهداف هذا الوجود بهجماتٍ عسكرية دورية، ولا تعترض واشنطن على هذه الضغوط الاستخبارية والعسكرية، ما دامت توزن بميزانٍ دقيق، ولا تتطوّر إلى مواجهة واسعة، بل ترى في تلك الضغوط عاملاً مساعدا لحمل طهران على تليين مواقفها في التفاوض، والتوقف عن تشبثها برفع العقوبات عنها لدى برمجة أي اتفاقٍ محتمل. غير أنه في ظروف الحرب الروسية على أوكرانيا، تسعى واشنطن إلى زيادة وتيرة الإمدادات النفطية من سائر الدول، للتعويض عن النفط الروسي المحظور، ولتقليل الحاجة إلى هذا النفط، وللمساهمة كذلك في خفض أسعار هذه السلعة الاستراتيجية، على أن يكون ثمن ذلك تقييد البرنامج النووي الإيراني وإخضاعه لرقابة منظمات دولية. وليس سرّاً أن السعودية ما زالت على درجةٍ من الحذر تجاه النيات الأميركية حيال إيران في المجمل، وإزاء الملف النووي لهذا البلد على الخصوص. ولذلك، سوف تكون للرياض كلمتها في هذا الشأن، إلى جانب مسائل أخرى، منها التعاون التسليحي والتدريبي بين الجانبين (لواشنطن ملاحظات على التعاون الخليجي في هذا المجال مع موسكو وبكين)، والمقاربات حول الحرب في اليمن، إضافة إلى بحث المطلب الأميركي المتكرّر بزيادة إمدادات النفط السعودي للأسواق العالمية. وعلى الأرجح أن يبلور مسؤولو دول الخليج موقفا متناغما حيال هذه المسألة خلال لقاء القمة الذي يجمعهم بالرئيس الزائر، علما أن اللقاء يضم أيضا قادة ثلاث دول عربية، بما يوسّع نطاق القضايا القابلة للبحث في اللقاء. وهنا يثور مشروع "الناتو الشرق الأوسطي" الذي تتكتم بشأنه واشنطن، والذي يثير رفضا واسعا وقوياً في أوساط الرأي العام العربي. والمقصود بذلك حلف على غرار حلف شمال الأطلسي (أو قابل للتطور مستقبلاً كي يصبح على شاكلة الحلف) يضم دولا عربية مع إسرائيل. وقد سمح توقيع الاتقاقيات أبراهام بين إسرائيل وأربع دول عربية بإطلاق هذا التصور، إن لم يكن قد أسّس له، إذ لم تتضمّن تلك الاتفاقيات تطبيعا سياسيا ودبلوماسيا فقط، بل شملت تعاوناً واسعا في مجالات حيوية عدة، بينها المجالان العسكري والأمني. وتدل المواقف الأميركية على أن هذا التطوّر يستجيب لتطلعات أميركية قديمة، وإن ما تحقق يمثل اختراقا لمعادلات سياسية كانت قارّة طوال عقود، وأن من شأن هذا التطور أن يولّد تفاعلاتٍ تؤدّي إلى انضمام أنظمة عربية أخرى إلى قطار التطبيع السريع، وعلى قاعدة "المنفعة" المتحققة من هذا التحوّل.
الإدارة في واشنطن، ومعها البنتاغون والوكالات الأمنية، سوف تحبذ دمج إسرائيل بصورة تدريجية
ليس هناك ما يشي بأن بايدن، في جولته هذه، سوف يثير أمراً دراماتيكياً، كالدعوة إلى إنشاء "ناتو شرق أوسطي"، ما سيؤدّي إلى احتقانات في صفوف الرأي العام الذي يرفض أحلافاً كهذا، غير أن الإدارة في واشنطن، ومعها مؤسسات البنتاغون والوكالات الأمنية، سوف تحبذ دمج إسرائيل بصورة تدريجية، وليست بطيئة بالضرورة، مع دول في المنطقة في منظومة أمنية ترعاها واشنطن، وذلك للوقوف في وجه التهديدات الإيرانية. ومغزى ذلك أنه يمكن بناء هذا الحلف خطوة خطوة من دون الإعلان رسميا عنه، وحتى من دون تسميته حلفاً. وفي هذا الموضع، تلوح مسألة استعصاء الحل السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما تدركه إدارة بايدن، التي تحمل الرجل على تخصيص محطّة في رام الله لجولته، ما يدلّ على أن الرجل عازم على تحريك هذا الملف بعد طول جمود، وبعد جموح إسرائيلي عدواني متواصل تجاه الحقوق الفلسطينية، ورفضٍ متغطرسٍ للأخذ بالمسار السياسي. وقد جاء نشر التقرير الأميركي بشأن اغتيال الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة كاشفاً للتوجهات الأميركية في المرحلة المقبلة، فالتقرير رجّح أن تكون الرصاصة قد انطلقت من الجانب الإسرائيلي، ولكن من دون إدانة، إذ جرى إطلاق الرصاصة في "ظروف مأساوية"، وأدى إلى "موت غير مشروع". والمقصود هنا تخفيف التبعات القانونية والسياسية على الطرف الإسرائيلي الذي خطّط للجريمة ونفّذها. وبينما يشدّد التقرير على وجوب المحاسبة، فإنه يدعو إلى تعاون بين سلطات التحقيق الفلسطينية والإسرائيلية. وكان من الطبيعي أن يرفض الجانب الفلسطيني فحوى القرار وخلاصته. غير أن هذه، كما هو واضح، هي الطريقة الأميركية في هذه الآونة لاعتماد حلول وسط يجرى التلويح بها عشية وصول بايدن إلى المنطقة الثلاثاء 13 يوليو/ تموز الجاري، حيث من المنتظر تطرّق الزائر إلى حلّ الدولتين، ورفض الخطوات الأحادية، وضرورة استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. ولا تعدو تلك التوجّهات أن تكون ديباجة سياسية ولفظية غير ملزمة لأصحابها، إذ إن رفض دولة الاحتلال حل الدولتين، ومواصلة الغزو الاستيطاني والتهويد القسري للقدس المحتلة، والتنكيل الجماعي، وهدم البيوت.. ذلك كله لا تترتّب عليه أية إجراءات أو ردود فعل أميركية جدّية، علاوة على أن الجانب الإسرائيلي سوف يتذرّع بأنه يعبر مرحلة انتقالية، إذ يستعد لانتخابات تشريعية مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بما يقيده في هذه الآونة عن اتخاذ أية مواقف سياسية "مثيرة للجدل والانقسام"! غير أن الزائر، ومعه الوفد المرافق، سوف يستثمر موقفه اللفظي بأهمية إحياء المسار السياسي لحل الصراع، من أجل ترويج دمج إسرائيل في المنطقة، واجتذاب كل من يمكن اجتذابه لمسار التطبيع.