بشّار الأسد في هذه الحرب... يتناسى فيصمت

22 اغسطس 2024
+ الخط -

قامت شرعية بشّار الأسد وأبيه على تحرير فلسطين. صار عمر حالة الطوارئ المفروضة على سورية ستين عاما. تكبِّل تسجن تقتل تعذّب تخنق تقتل الهواء نفسه، على أساس تهم، أو شكوك، بالخيانة أو العمالة أو التواطؤ مع الصهيونية والإمبريالية. ومن الإنجازات العربية التي اشتهر بها الأسد الأب انضمامه إلى "جبهة الصمود والتصدّي"، التي دعا إليها معمّر القذافي إثر اتفاقية السلام التي أقامها أنور السادات مع إسرائيل. وكانت طموحات هذه الجبهة مترفّعة بتحرير كامل التراب واستعادة كامل الحقوق ... إلخ.

وذاع صيت الأسد الابن في المؤتمرات العربية اللاحقة: كان يصرّ كل مرة، بمناسبة ومن دونها، على تأنيب قادة عرب على عدم حماستهم لمقاتلة إسرائيل. وقد اشتهر في حرب تموز (2006) بين إسرائيل وحزب الله على التغليظ من هذا التأنيب. إذ وصفهم بـ"أنصاف الرجال"، بعدما "أسقطت الحرب المواقف". وفي الانتفاضة الشعبية التي ارتفعت بوجهه منذ أكثر من عقد، لم يبارح لسانه صفة "الصهيونية والإمبريالية" التي ألصقها بأصحابها وجمهورها، فكان مباحا له قتلهم وطردُهم وتدمير مدنهم. أما الآن فلا. منذ بدء الحرب على غزّة لم يطلق بشّار الأسد تصريحا واحدا حول "الطوفان"، ولا كلمة تضامن واحدة تجاه الفلسطينيين من أهل غزّة والضفة الغربية، ولا "إسنادا" لوجيستيا، أو ديبلوماسيا، ولا "جهة" إعلامية قريبة منه حاولت تزيين موقفه، ولو لفظيا، على الأقل عن "وحدة الساحات"، التي تقودها طهران. كما أنه منعَ التظاهرات المناصرة لغزّة، وفرض على شيوخ المساجد السكوت التام عن تلك الحرب الدائرة في خطبهم الأسبوعية.

وعندما حصلت مجزرة مجدل شمس، الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بقي بشّار وفيا لنفسه: بدا وكأن راح عن باله أن هذه القرية تقع في هضبة الجولان السورية، وتحتلها إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن. وكان أضعف الإيمان التذكير بسورية القرية، وبوجوب "المقاومة لتحريرها"، ولو من طرف الشفاه، ما كان سيرفع قليلاً من رصيد "وحدة الساحات"... ولكن ماذا تفعل مع بشّار الذي يتناسى، ويريد للجميع أن ينسى؟ أنه حكم سورية بعد والده بشعار تحرير كل فلسطين، وها هو لا يتلفظ بكلمة من أجل جزء محتل من سورية. وقبل مجدل شمس، تغتال إسرائيل رضا زاهدي في هجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق. ويكون الرد السوري عليها بيان من وزير الخارجية، بارداً جافّا، يشبه التصريحات السويدية عن هذا الاغتيال. كأن مقرّ الوزير يبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن دمشق. والسلوك نفسه في جريمة اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر، لم يصدر عن دمشق تنديد واحد. وأخيراً، بعد اجتماع قادة "وحدة الساحات" في إيران، وتضم حزب الله والحوثيين وحركتي حماس والجهاد الإسلامي والمليشيات العراقية - الشيعية الموالية لإيران... صارَ واضحاً أن بشّار الأسد غائب "رسميا" عنها. لن يشارك فيها لا من قريب ولا من بعيد.

هذا النأي بالنفس عن حربٍ تدور رحاها في قلب بلده، لم يكن له اسم محدّد، مع أنه كان في خاطر الجميع، إلى أن جاء أمين عام حزب الله حسن نصر الله ليسمّيه، انه "الإعفاء". يقول في واحدة من خطبه أخيراً إنه ليس مطلوبا من سورية وإيران الدخول في حرب (وإنما مساندتنا)، من دون أن يستفيض ولا يفسر ولا يحلل ولا يزيّن، خلافا لما درج عليه في خطبه.

أسلوب الروس شيء، قواعد وجيش، وقوانين عسكرية. والوجود الإيراني شيء آخر: مليشيات بجنسيات عربية إسلامية، لبنانية عراقية أفغانية

والأمر ليس جديداً تماماً. فخلال السنوات العشر الماضية، تلقّت سورية مئات الضربات الإسرائيلية على موانئها ومطاراتها وبناها التحتية. وامتدت هذه الضربات على البساط الإيراني، وغطت ضواحي دمشق ودير الزور وحلب والشريط الفاصل بينها وبين لبنان، حيث يتنقل حزب الله بالذخيرة والعتاد. وما من كلمة زعل، أو استنكار، لكي لا نقول قراراً، أو إجراءات، يعلن عنها بشّار حول هذه العمليات.

وكأن بشار الأسد ليس في بلاده. وهذه بداهة تراكمت مع السنوات اللاحقة على تصدّيه لشعبه والاستعانة بأياد أجنبية للقضاء عليه. منذ البداية، أي بعد سنتين على الانتفاضة، لم يعُد خافيا، رغم الإنكارات المتتالية، أن حزب الله ومليشيات شيعية أخرى، بقيادة إيران، يخوضون حرباً داخل سورية، عنوانها الدعائي المقامات المقدّسة والإرهاب، وغرضها العملي تثبيت عرش بشار المهتزّ. ومع ذلك، لم يتمكن الاثنان، بشّار وخامنئي، من احتواء الوضع، فكان الكيميائي، وإنقاذ بشّار من الإدانة الدولية والهجوم الأميركي عليه، بفضل انتشال فلاديمير بوتين له، ودخول روسي، عسكري ورسمي، عام 2015، لحمايته من السقوط المحتم، وقواعد عسكرية في الشمال خصوصاً، تنطلق منها الطائرات الحربية لتقصف أهل إدلب المطرودين من قراهم، تدمر المخابز والمستشفيات والملاجئ...

ثم الأميركيون المتأخرون، بقواعدهم في الرميلان والمالكية وتل البيدر، في الحسكة، في الشمال الشرقي، تسعمائة جندي أميركي أرسلهم دونالد ترامب، عام 2017، كمشاركة له في تلك الحرب التي أراد سلفه باراك أوباما الانسحاب منها، مهما كان الثمن. هذا فضلاً عن الجيش التركي الذي يدخل إلى إدلب ويخرج منها بحسب الظروف، والذي يأمر فرقا عسكرية سورية، ويقاتل أخرى، الكردية. ولتتداخل أيضا حساباته بعضها ببعض، ما يفضي إلى رغبته بـ"التطبيع" مع بشّار الأسد، الذي يستعد بدوره لاحترامية عربية تحتضنه، أي يكون لها حصة في قراراته، المصيرية الإسرائيلية - الفلسطينية خصوصاً.

كأن بشار الأسد ليس في بلاده. وهذه بداهة تراكمت مع السنوات اللاحقة على تصدّيه لشعبه والاستعانة بأياد أجنبية للقضاء عليه

وليست العلاقة بين هذه الجيوش المحتلة سورية كما يمكن التصوّر. بين بوتين وخامنئي وحدة أهداف بعيدة المدى، عصبها العداء للأميركيين، وتفرّعاتها غير منسجمة. أسلوب الروس شيء، قواعد وجيش، وقوانين عسكرية. والوجود الإيراني شيء آخر: مليشيات بجنسيات عربية إسلامية، لبنانية عراقية أفغانية، عدد أفرادها ثمانون ألفا. بجانبها قوات إيرانية عسكرية رسمية لا يتجاوز عدد أفرادها الألفين وخمسمائة. وهذا لا شيء أمام تعامل روسيا مع الضربات الإسرائيلية. حصلت حوادث كثيرة في الأعوام الماضية، بيّنت أن ثمة تنسيقاً مسبقاً بين الروس والإسرائيليين للضربات الإسرائيلية على سورية. وهي تستهدف الثكنات ومصانع الأسلحة والقوافل العسكرية التابعة للمليشيات الإيرانية، أي المفترض أنها حليفة روسيا.

وإذا أضفتَ إلى ذلك كله اختلاف أساليب الاثنين الدعائية والتوسعية، كشراء إيران عقارات سورية، او حملات التمذهب الشيعي، ومراكز التثقيف الثوري، أو إنشاء شبكات موالية لها من مواطنين بسطاء، مقابل انكباب الروس على المصالحات... يمكنك تصوّر تعقُّد العلاقة بين دولتين تحتلان دولة أخرى. تحالف وتنابذ على ساحة (تستحق هنا صفة "الساحة")، فيها يطوّرون طموحاتهم، يختبرون أسلحتهم، يعقدون اتفاقيات الاستثمار والتنقيب في المناجم والحقول، وينسّقون حينا ويتنابذون أحيانا، بصفقات ناجحة أو فاشلة، ليست كلها معروفة. حلفاء أصدقاء أعداء أعدقاء...

وقد تلخّص قصة الإعلامية السورية لونا شبل شيئاً من هذا التعقّد للعلاقة بين محتلي دولة سورية، فلونا شبل مستشارة بشّار، صديقته، مقرّبة منه إلى حدّ الظنون. والشائعة القوية، التي ربما هي مجرّد إشاعة، ولكنها تعكس شيئاً من الواقع، إذ تقول إن الحرس الثوري خطفها وعذبها وقتلها. وأيضا، يقول الواقع إن بشّار لم ينعِها، ولا حضر عزاءها، أو أرسل مندوبا عنه، والأرجح أنه لم تكن له يد في قرار اقتصار وقت العزاء بها ودفنها على ساعتين، ومنع التصوير والصحافة من تغطيتهما...