بداية نهاية إسرائيل

29 يناير 2024
+ الخط -

الحرب الوحشية التي تجري في غزّة هي بداية النهاية لذلك الكيان المفتعل المسمّى إسرائيل، فهي أعمق وأكبر من مجرّد حربٍ غير متكافئة بين قوّة غاشمة وحزمة من المناضلين، ولو كانوا أولي بأسٍ شديد، فالمغزى كوني والرسائل إلهية، من شأنها فكّ الألغاز عن مستقبل العالم ومصير طغمة من البشر لا قيمة عندهم لأخلاق، ولا مكان للإنسانية، ولا وزن للبشر، كما خلقهم الله، فالصهيونية قائمة أساساً على عنصرية فجّة ونرجسية قومية. وليست إسرائيل إلا مظهرٌ تنظيمي مفتعلٌ عسفاً، ومفروضٌ قسراً لتتلبس الصهيونية لباس الكيانات العاديّة المقبولة والمتعارف عليها كتجمّعات بشرية ذات صبغة مؤسّسية جامعة.
لقد جسّدت حربُ غزّة عملياً حالة نموذجية لغلبة النزعات الحيوانية المتدنّية على التفاعل بين البشر، إذ يرى صهاينة العالم في الفلسطينيين مجرّد حشراتٍ مزعجة ينبغي التخلّص منها. وهي، بالمناسبة، النظرة ذاتها التي يرمقون بها العرب والمسلمين بصفة عامّة، غير أن خضوع الفلسطينيين تحت سيطرتهم المباشرة يتيح ترجمة تلك النظرة العنصرية إلى عمليات سحق وإبادة يمارسها الجيش الإسرائيلي بأريحيّة كاملة. وبدت السعادة واضحة على وجوه الجنود الإسرائيليين وهم يقتلون مدنيين أبرياء. وانتشرت اللقطات المسجّلة لبعضهم وهم يتباهون بقتل أطفال فلسطينيين. 
في المقابل، كانت عقودٌ من القمع والتنكيل الذي تعرّض له الفلسطينيون كفيلة بالقضاء على روح البقاء لديهم، وإنهاء أي قناعة باستعادة حقهم التاريخي والديني والأخلاقي. لكنهم، بعد 75 عاماً من القهر والإمعان فيه، أثبتوا مجدّداً أنهم ليسوا فقط مقتنعين بأنهم على حقّ ويسيرون في الطريق الصحيح، بل إنهم على يقين كامل بالانتصار في تلك المباراة الصفرية. المثير للتأمل أن التطوّرات على الأرض تثبت تحقّق تلك المعادلة المستحيلة بمقاييس البشر ومنطق الرياضيات الفيثاغورثية التقليدية. 
لقد بلغ التناقضُ ذروتَه بين غريزة الإسرائيليين في محو الآخر من الوجود، مقابل اليقين الفلسطيني بالبقاء، فبات الحسمُ وشيكاً، إما ينسحق الفلسطينيون حسبما يتوهّم الصهاينة، أو تنتهي الأسطورة الكاذبة المسمّاة إسرائيل. وكلُّ ما يجري في غزّة مؤشّرٌ قوي إلى أن الصراع في لحظاته الأخيرة. وهي لحظاتٌ بمقاييس التاريخ والكون، وإن استغرقت بأزمان البشر شهوراً أو حتى أعواماً.
ولأن سُنة الله في الكون نافذة، فإن منظومة الصهيونية العالمية تعمل بجدّ، من حيث لا تدري، على التعجيل بنهاية إسرائيل. وما تقوم به كل مكوّنات تلك المنظومة من دولٍ وشركاتٍ وأجهزة وأفراد في خدمة أهداف اليهود وأحلامهم في أرض الميعاد، هو في النهاية هروبٌ إلى الأمام، واندفاع قدري إلى مصيرٍ محتوم، فبدلاً من أن تُراجع العقلية الصهيونية حساباتها بسبب الخسائر التي تتكبّدها يومياً، على الأقل من منطلق براغماتي، يحدُث العكس، وتندفع الآلة العسكرية نحو مزيدٍ من التورّط، والأهم أنها في ذلك مدعومة بماكينة التطرّف والعنصرية التي أصبحت تغذّي شرايين الحياة هناك. 
ولأن هولوكوست غزّة حقيقي، كان موقف محكمة العدل الدولية معبّراً عن ضمير العالم أو ما بقي منه. وفي هذا الموقف علاماتٌ جديرة بالتأمل طويلاً، فهيئة المحكمة التي باشرت دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل تضم قضاة من دول معروفة بانحيازها لإسرائيل، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي انضمّت رسمياً إلى جانب إسرائيل أمام المحكمة. ورغم ذلك يعدُّ قرار المحكمة المؤقت بمثابة إدانة لإسرائيل، وإقراراً بارتكابها إبادة جماعية. وكأن هولوكوست غزّة لم يكن ليحدُث ويمرّ من دون جرس إنذار إنساني يُذكّر العالم، صهاينة وبشراً أسوياء، بأنهم يقتربون من لحظة الحقيقة. وفي هذا أيضاً إشارة أخرى إلى أن الأمور تقترب سريعاً من نهاياتها، وأن الحقائق تفرض نفسها.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.