بايدن وشطرنج الشرق الأوسط
منذ الفشل الذي منيت به في حرب العراق، وتحديدا منذ عام 2005، والولايات المتحدة حريصةٌ على رفع يديها تدريجيا من لعبة الشرق الأوسط عالية التكلفة. ولولا النفط وإسرائيل لأهملت أميركا المنطقة كثيرا. ولكن حفاظا على تدفق النفط وعلاقتها القوية بإسرائيل، قرّرت أميركا تخفيف وجودها أو رفع يديها تدريجيا عن المنطقة تخففا من أعباء التدخل العالية، وفي مقدمتها الحروب والصراعات المزمنة. وهي سياسةٌ بدأت مع جورج دبليو بوش، والذي دعا بقوة إلى التركيز على اكتشافات النفط الصخري الداخلية، لتقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط. واستمرت مع خلفه الرئيس أوباما، والذي دعم الربيع العربي بخجل، قبل أن يغض الطرف عن الثورة المضادة. وترسخت مع الرئيس ترامب، والذي طالب بعض دول الخليج علانية بتحمّل تكاليف الحماية الأميركية بشراء مزيد من أسلحة بلاده، واستثمار عائدات النفط فيها. كما حرص ترامب على سحب القوات الأميركية من سورية والعراق، ولم ينسَق إلى حرب في إيران، على الرغم من كل استفزازاته العلنية لها واغتياله قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، إذ حرص على عدم الدخول في صراع مسلح جديد في المنطقة، مفضلا سلاح العقوبات الاقتصادية. وهي استراتيجية يُتوقع استمرارها مع الرئيس المرتقب، جو بايدن، والذي يعاني داخليا أكثر من سابقه، حيث يرث بلدا منقسما بشدة، تنتشر فيه نظريات المؤامرة، وتقتنع فيه نسبة لا بأس بها من اليمينيين المتشدّدين بأنه فاز بالتزوير أو سرق الانتخابات. كما يرث بايدن تبعات جائحة كورونا، واقتصادا يعاني، وتحالفاتٍ دولية تحتاج لترميم، ومنافسة اقتصادية وسياسية أكبر مع الصين.
على بايدن أن يرمّم تحالفاته، وخصوصا مع الدول الأوروبية التي تريد العودة، قدر الإمكان، إلى رقعة عام 2016 باستعادة الاتفاق النووي مع إيران
سيرث بايدن أيضا رقعة شطرنج شرق أوسطية أشد تعقيدا بكثير من التي تركها أوباما منذ أربع سنوات. خلال حكم ترامب، عزّزت روسيا وجودها في سورية وتوغلت في ليبيا، وزوّدت تركيا بمنظومات دفاع جوي متقدمة، وتعاونت معها في أكثر من ملف شرق أوسطي. كما توغلت الصين أكثر في الشرق الأوسط من خلال استثماراتها وقروضها، كما هو الحال في مصر. وخلال السنوات الأربع الأخيرة أيضا، زاد الدور الذي تلعبه دول الثورة المضادّة الخليجية، كالإمارات السعودية، في البلدان العربية المختلفة، حيث توغلت هاتان أكثر في حرب اليمن، وعملتا على تقسيم البلد من خلال دعم قوى الجنوب الانفصالية. كما فرضت هذه الدول (الإمارات ومصر والسعودية والبحرين) حصارا على قطر، ودعمت حرب اللواء المتقاعد المتمرد، خليفة حفتر، على طرابلس، وتقاربت مع إسرائيل، وقام بعضها بالتحالف العلني معها، كما استمرّت هذه الدول في هجومها على قوى التغيير والديمقراطية في المنطقة، وفي دعم النظم الاستبدادية، والتي رسخت حكمها بشكل كبير. في الوقت نفسه، قوت قطر وتركيا من تحالفيهما، وبات للقوات التركية قاعدة عسكرية في قطر. هذا بالإضافة إلى الدور الكبير الذي تلعبه تركيا في سورية وليبيا، وفي الصراع على موارد الطاقة شرق المتوسط. وهذا يعني أن بايدن سيواجه برقعة شطرنج جديدة، وأكثر تعقيدا بكثير من التي تركها أوباما.
منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، ضاعفت إيران إنتاجها من اليورانيوم المخصّب اثنتي عشرة مرة، ورفعت نسب التخصيب
وقبل اللعب أو محاولة تغيير رقعة الشطرنج، لا بد أن يبدأ بايدن بترميم تحالفاته، وخصوصا مع الدول الأوروبية التي تريد العودة، قدر الإمكان، إلى رقعة عام 2016 من خلال استعادة الاتفاق النووي مع إيران، والوحدة الخليجية، وحل الدولتين في فلسطين، والخطاب الداعم للحريات والديمقراطية، والتأكيد على الاستقرار ووقف الحروب الأهلية التي تجتاح المنطقة.
ولعل قطعة الشطرنج الأكبر التي سيحاول بايدن تحريكها هي استعادة الاتفاق النووي مع إيران. وهي خطوة لن تكون سهلة بأي حال، فمنذ انسحاب ترامب من الاتفاق، ضاعفت إيران إنتاجها من اليورانيوم المخصب اثنتي عشرة مرة، ورفعت نسب التخصيب، وربما نقلته إلى مواقع جديدة، كما تتهمها الوكالة الأممية، هذا بالإضافة إلى توسّع المليشيات المتحالفة مع إيران في سورية واليمن، وترسيخ أقدامها هناك. لذا لا بد وأن يساوم بايدن إيران على الملفات السابقة، وأن يحاول تهدئة مخاوف دول الخليج وإسرائيل. ولا شك في أن عودة (أو إعادة) دمج إيران دبلوماسيا، وانفتاح إدارة بايدن عليها، سوف يؤثران على ملفات كثيرة، في مقدمها الحرب في اليمن التي انتقدها بايدن بقوة. وربما ترحب دول التحالف السعودي الإماراتي نفسها بوضع حد لها بسبب تكاليفها الباهظة وصعوبة حسمها. وهذا يعني أن المنطقة قد تشهد نشاطا دبلوماسيا مكثفا لإعادة دمج إيران من ناحية، ووضع نهاية لحرب اليمن، وحلحلة الأزمة السياسية اللبنانية الداخلية، وتحقيق بعض الاستقرار والاستقلالية في العراق، وربما التخفيف من حدّة الأزمة السورية، وكذلك التأثير على الأزمة الخليجية نفسها، فمن شأن التقارب الدبلوماسي بين أميركا وإيران التأثير على ملفات عديدة، وإعادة توزيع موازين القوى الإقليمية.
سيسعى بايدن إلى العودة إلى حل الدولتين للقضية الفلسطينية. وربما يعيد افتتاح مكتب منظمة التحرير في واشنطن
سيحاول بايدن كذلك وقف التمدّد التركي في الإقليم والحدّ منه، وفكّ التقارب الروسي التركي، وسيواجه بتحالف تركيا مع روسيا، وبرغبة دول أوروبية، كألمانيا، بعدم خسران تركيا والحفاظ على التحالف معها. كما سيواجه أيضا بالتمدّد الكبير الذي حققته تركيا في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، بفضل الانسحاب الأميركي نفسه، والذي ترك مساحات فراغ واسعة، وبفعل سياسة الرئيس أردوغان التي لا تتردّد في المواجهة. وقد يدفع التفاوض الأميركي مع تركيا إلى حلحلة بعض الملفات، كالأزمتين، الليبية والسورية، وربما أيضا الأزمة الخليجية، حيث سيطالب الأتراك بايدن بالضغط على الأطراف الأخرى في هذه الأزمات لتقديم تنازلات مماثلة.
سيسعى بايدن أيضا إلى العودة إلى اللغة الدبلوماسية الدولية، وحل الدولتين للقضية الفلسطينية. وربما يعيد افتتاح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ويستأنف المساعدات الأميركية للفلسطينيين، ويحاول الوقوف ضد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، ولكنه قد لا يحاول إعادة بث الروح في مفاوضات السلام نفسها، والتي عجزت عن التقدم منذ أوائل التسعينيات.
ومن شأن عودة بايدن إلى الخطاب الأميركي المطالب بالديمقراطية والحريات في المنطقة، وخصوصا بعد الانتقادات اللاذعة التي وجهها إلى النظامين، السعودي والمصري، خلال حملته الانتخابية، أن تساعد في حلحلة المواقف الداخلية في عدة دول، ودعم الأصوات المعارضة وتخفيف الضغوط المفروضة على النشطاء السياسيين والحقوقيين. ولا بد أن يواجه بايدن معارضة قوية من تلك النظم وتهديدات بالتقارب أكثر مع روسيا والصين، ومحاولات لاستخدام العلاقة مع إسرائيل، والتقارب معها كورقة للضغط على بايدن وسياساته.
وهذا يعني أن الرئيس الأميركي الجديد سوف يواجَه بشرق أوسط أكثر تعقيدا وتشابكا، ونظمٍ توسعت كثيرا خلال عهد ترامب، تسعى إلى تعظيم مصالحها، ولن تتردد في مساومة الولايات المتحدة على مختلف الملفات، وفي مقدمها العلاقة مع إيران والاستقرار الإقليمي والديمقراطية. ولكن ذلك لا يعني ان إدارة بايدن ستقف عاجزةً بلا تأثير، فتدخلها في مختلف الملفات، وفي مقدمها الملف الإيراني، سيوجد مساحاتٍ واسعة للغاية للعمل والتغيير، فإعادة دمج إيران تكفي وحدها لتحريك مياه كثيرة راكدة في أكثر من ملف رئيسي في المنطقة. وهذا يعني أن رقعة شطرنج الشرق الأوسط مقبلة على تغييرات هامة وعديدة، وأن الفرصة متاحة أمام مختلف القوى لتعظيم مصالحها. ولعل في هذا دعوة إلى الدول والجماعات المعنية بالإصلاح السياسي في المنطقة لإعادة تنظيم صفوفها، والتفكير في سبل تعظيم مكاسبها.
سوف يستمر بايدن في استراتيجية الانسحاب التدريجي من المنطقة، ولن يخوض صراعاتٍ مكلفة، ولكنه لن يقف صامتا أمام ما يحدث، ولا بد أن يتدخل لتحريك ملفات عالقة، في مقدمها الأزمة الإيرانية. وسيؤدي التحرّك الأميركي إلى إيجاد مساحات وفرص جديدة للحركة. ويبقى السؤال الأهم هو عن مدى استعداد مختلف القوى لتعظيم مصالحها، مستفيدة من تحرّكات بايدن المتوقعة؟