بايدن والخروج من مأزق فيينا
دخلت الدول المعنية بمفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني 2015، في 3 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، جولة صعبة من استكمال المفاوضات المتوقفة في يونيو/ حزيران الماضي، وقد تغير الظرف الدولي والإقليمي، وانتقلت الأجواء من التفاؤل، في بداية المفاوضات في إبريل/ نيسان 2021، إلى التشاؤم، حيث انقلبت طهران على ما تم التوصل إليه من توافقات في جولات النصف الأول من العام الحالي (2021)، والتي نالت رضا الأوروبيين، أي قبل انتخاب إبراهيم رئيسي، رئيساً لإيران، وصعود المحافظين الأكثر تشدّداً، وتعيين علي باقري كني كبيراً للمفاوضين الإيرانيين، وهو أحد أكبر منتقدي اتفاق 2015. صعّد الوفد الإيراني من شروطه نحو رفع كامل العقوبات الاقتصادية الأميركية، وضمان استمرارية الاتفاق، وأن يقرّه الكونغرس الأميركي، إضافة إلى استمرار طهران في تخصيب اليورانيوم، وإعلانها الشهر الماضي امتلاك 30 كيلوغراما من اليورانيوم المخصب بدرجة 60%، ومصادقة البرلمان الإيراني على زيادة تخصيب اليورانيوم؛ بالتالي لا تكترث طهران بالمفاوضات، وقبلت بها كسباً للوقت، لتطوير قدراتٍ تلقائيةٍ على تفعيل السلاح النووي، وعدم فرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ جديدة عليها. وبناء على ذلك، تستعد واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون للبحث عن الخيارات البديلة للضغط على طهران.
تبرز هنا حجم الورطة التي أوقع بها ترامب بايدن، نتيجة انسحابه من الاتفاقية النووية مع إيران، وتطبيق سياسة "الضغوط القصوى" عبر فرض العقوبات الاقتصادية على قطاعات النفط والتعدين والمصارف. تبيَّن لإدارة بايدن، بالتجربة، عدم نجاعة العقوبات الاقتصادية وحدها في تشكيل ضغوط كافية لكبح جماح إيران النووي، والتي باتت تتفنن في إيجاد سبلٍ للتغلب عليها، يصعب متابعتها. كانت إيران مستعدّةً مسبقاً للعقوبات. وعلى ذلك، بنت علاقات اقتصادية استراتيجية مع دول المنطقة، مكّنتها من التغلب على مشكلة العقوبات إلى حدّ ما، فهي تصدّر معظم نفطها إلى الصين، بأسعار أرخص من السوق العالمي، في ظل ارتفاع أسعار النفط عالمياً، وتصدّر منتجات الغاز والمكثفات ومشتقات نفطية، عبر الصين والإمارات إلى دول العالم، وتصدّر الغاز إلى تركيا، وهناك تجارة بينية معتبرة بين البلدين. وتُضاف إلى ذلك براعة إيران في إيجاد طرق بحرية غير مباشرة، عبر سفن غير مرصودة بأجهزة التتبع.
تعتقد طهران أن إدارة بايدن لن تتورّط في عمل عسكري ضدّ مواقعها النووية، ولن تسمح لإسرائيل بذلك، وأن واشنطن تحتاج إيران في أفغانستان
حتى اللحظة، لم تنجح إدارة بايدن في تشكيل ضغوط حقيقية على طهران، حيث فشلت في رفع منسوب إنتاج النفط لتخفيض الأسعار عالميا، الأمر الذي رفضته دول الخليج، خصوصا السعودية، الأكثر تأثيراً في منظمة أوبك، لأنه سيتسبّب لها في خسائر كبيرة. كما أن تخفيض أسعار النفط لا يضمن ثني طهران عن برنامجها النووي وبرنامجها للصواريخ، ولا عن مشروعها المليشياوي التوسّعي، والذي بات يحاصر دول الخليج، في اليمن خصوصاً، ولا يوقف استفزازاتها المستمرّة في الخليج، بل العكس، سيزيدها كردِّ فعل مباشر أو غير مباشر على أي ضغوطٍ في المنطقة تُمارس على طهران.
تريد إيران أن تثبت أنها دولة إقليمية، ونووية، وإنْ غير معلنة، كإسرائيل والهند وباكستان، وتريد اتفاقاً يكون في مصلحتها من جهة إزالة العقوبات اللازمة لتعويم الاقتصاد وعودتها الشرعية إلى أسواق التجارة العالمية، لكن من دون تقديم تنازلات كبيرة في برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي ومشروعها المليشياوي في المنطقة. وتراهن على الرغبة الدولية في العودة إلى الاتفاق النووي، وعلى التلويح بمعدّلات تخصيب مرتفعة لليورانيوم، وعلى تأزيم الاستقرار الإقليمي والملاحة في الخليج، وعلى محدودية خيارات بايدن وعجزه عن إيقاف صادرات النفط الإيرانية، في ظل إتقان طهران طرق التهريب، وحصولها على دعم دول مجاورة، وقدرتها على الانتقام.
تعتقد طهران أن إدارة بايدن لن تتورّط في عمل عسكري ضدّ مواقعها النووية، ولن تسمح لإسرائيل بذلك، وأن واشنطن تحتاج إيران في أفغانستان، وتحتاجها إلى جانب الهند وباكستان النوويتين لمحاصرة الصين. وتُجازف طهران في بناء تصوراتها على فكرة أن أميركا تنسحب من الشرق الأوسط لمصلحة المواجهة مع الصين، وأن الملف الإيراني هامشي بالنسبة لها؛ لكن بايدن الذي رفع شعار "عودة أميركا"، ردّاً على شعار الانكفاء الترامبي "أميركا أولاً"، يفتش عن مخرجٍ لورطته في مفاوضاته مع إيران، والتي تتم بشكل غير مباشر، حيث رفض الإيرانيون الجلوس مع الأميركيين وجهاً لوجه، وقبلوا بالأوروبيين والروس والصينيين.
من غير المستغرب، بعد التصعيد المتبادل والضغوط، أن يصل الأميركيون والإيرانيون بوساطةٍ أوروبية، ودور روسي وصيني، إلى صيغة اتفاقٍ ما
على بايدن أن يجد مخرجاً يحفظ ماء وجهه، أمام ناخبيه ومعارضيه؛ وهو، إلى جانب التركيز على الضغط على إيران في المفاوضات، يحاول البحث في كيفية جعل العقوبات على طهران ذات جدوى؛ لذلك عليه إدارة جملة ملفاتٍ معقدةٍ ومتشابكة، وصياغة خلطةٍ تخرجه من المأزق. بدأ بالتركيز على الإمارات، كون شركاتها تلعب دوراً كبيراً بالتجارة مع إيران، فهي ثالث دولة تستورد من إيران بضائع بقيمة 4.6 مليارات دولار، وبحجم تداول تجاري بيني وصل العام الماضي إلى 9.6 مليارات دولار. وعليه البحث في المهمة الأصعب، وهي تقديم تنازلات إلى الصين، أكبر مستورد للنفط الإيراني، بالتوازي مع إقناع السعودية بالموافقة على رفع منسوب إنتاج النفط، وتخفيض الأسعار، والذي سيكون في مصلحة الصين، ويسمح لها بإيجاد بدائل عن النفط الإيراني الرخيص. يجري ذلك كله بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، إلى واشنطن، لمناقشة الخطط البديلة في حال الفشل، أي القيام بعمل عسكري محدود، حيث لا ترغب واشنطن بنشر مزيد من القوات في المنطقة، وربما الاكتفاء بالهجمات الإسرائيلية السيبرانية على طهران، باعتبار أن إسرائيل أكثر المتضرّرين من أن تصبح إيران دولة نووية، لأنه سيقلل من حماسة هجرة اليهود إلى إسرائيل.
الملف المؤلم لطهران، إذا ما تم المساس به، هو ملفّ المليشيات الشيعية الموالية لها؛ ما زالت إدارة بايدن تفصل هذا الملف عن عملية المفاوضات النووية، باعتبار أن واشنطن مستفيدةٌ من الدور التفتيتي الذي تقوم به هذه المليشيات الطائفية في الشرق الأوسط، طالما أنها تحت سيطرة الأميركيين ونظرهم، في العراق ولبنان وسورية، وفي اليمن، تهدّد أمن دول الخليج، ولا يمكن حلها من دون التنسيق مع واشنطن. هذا يعني أن ملف المليشيات الشيعية ورقة مهمة بيد واشنطن أيضاً، للضغط على دول الخليج. ومن غير المستغرب، بعد كل هذا التصعيد المتبادل والضغوط، أن يصل الأميركيون والإيرانيون بوساطةٍ أوروبية، ودور روسي وصيني، إلى صيغة اتفاقٍ ما، يخفّف بعض العقوبات الاقتصادية عن طهران، التي تعاني من ضغط داخلي شعبي؛ وهذا لا يلغي حقيقة أن إيران على عتبة أن تصبح دولةً نووية، لكنها قد تقدّم تنازلات، تشمل بعض المليشيات الموجودة في أربع دول عربية.