بايدن - نتنياهو ... راهن الملفات الخلافية
منح الكنيست حكومة نتنياهو السادسة ثقته، الأسبوع الماضي، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان توتر العلاقات بين الاحتلال الصهيوني وأميركا في فترة حكم نتنياهو السابقة، زمن ولاية باراك أوباما، إذ ينتمي الأخير إلى الحزب الديمقراطي، الحزب الحاكم في الولايات المتحدة اليوم برئاسة جو بايدن، الذي شغل منصب نائب الرئيس في مرحلة أوباما، ويعدّ مراقبون ومحللون كثر مرحلة بايدن الراهنة امتداداً لمرحلة أوباما.
يُلحظ من مراجعة فترة رئاسة أوباما تأثير عدة ملفات، إقليمية ودولية، في العلاقة بنتنياهو وحكومته، أهمها ملف الاستيطان، القضية الفلسطينية، إيران وملفها النووي، العلاقة مع كل من روسيا والصين. فيما نلحظ، في الوقت الراهن، تراجع أهمية بعض هذه الملفات أميركياً، أو تقليل هوامش الخلاف مع الاحتلال وحكوماته؛ بما فيها رؤية نتنياهو، في ملفات أخرى، الأمر الذي يدفع كاتب المقال إلى تقدير تراجع حدة التوترات الأميركية - الصهيونية ووتيرتها، أو بين بايدن ونتنياهو، في ما بقي من فترة حكم بايدن.
بعد التدقيق في ملفي الاستيطان والقضية الفلسطينية، نجد أن أسباب توتر علاقة نتنياهو وأوباما غير مرتبطة بتوجهات الممارسات الإسرائيلية ووتيرتها، بقدر ما يتعلق بأسلوبها، إذ يميل الحزب الديمقراطي، عادةً، إلى الطرق الناعمة التدريجية؛ الخالية من "الشو الإعلامي"، في فرض الأجندة الأميركية ومصالحها، فيما يميل نتنياهو إلى طريقة الحزب الجمهوري الأميركي الفجّة؛ المباشرة، والوقحة والصادمة في فرض أجندته.
تتفق إدارة بايدن مع جوهر مشروع نتنياهو، وحلفائه العنصريين، الاستيطاني، فيما تختلف معه بشأن آليات فرض هذا المشروع الإجرامي
يمكن الاستدلال على ذلك من التدقيق في علاقة الحكومة الأميركية وحكومة الاحتلال المنتهية ولايتها، التي شهدت أرض فلسطين في فترة حكمها القصيرة، تسارعاً كبيراً في الحركة الاستيطانية؛ وفي تيرته وتوسّعه وزيادة عنف المستوطنين، وفق آراء خبراء فلسطينيين وخبراء دوليين وأمميين. إذ لم يساهم ذلك في توتر علاقة حكومة بينت - لبيد مع إدارة بايدن، مقارنة بالتوتر الذي ساد علاقة حكومة نتنياهو بإدارة أوباما.
بناءً عليه، تتفق إدارة بايدن مع جوهر مشروع نتنياهو، وحلفائه العنصريين، الاستيطاني، فيما تختلف معه بشأن آليات فرض هذا المشروع الإجرامي، وفق نصوص القانون الدولي، إذ تعتقد إدارة بايدن، والإدارات الديمقراطية عامةً، أن أسلوب تطبيق المشروع تتساوى، من حيث الأهمية، مع فحوى المشروع ذاته، نظراً إلى دور الأسلوب في تقليل تبعات تنفيذ المشروع أو زيادتها، محلياً وإقليمياً ودولياً. أي، يدور خلاف بايدن مع نتنياهو بشأن طريقة تنفيذ المشروع الاستيطاني فقط، التي تمنح الاحتلال عوائد أكبر وخسائر أقلّ، ثمناً أقلّ، وتساهم في تقليل الدور الأميركي المباشر، إذ قد يؤدّي تصاعد التوترات داخل فلسطين وفي محيطها الإقليمي إلى مزيدٍ من الانخراط الأميركي في شؤون المنطقة، وهو أمرٌ غير محبذ أميركياً في المرحلة الراهنة، التي تعمل فيها الإدارة الأميركية على تحشيد غالبية قدراتها وإمكاناتها في منطقة شرق آسيا.
يعدّ الملف الإيراني، النووي تحديداً، من أهم ملفات توتر العلاقة الأميركية - الصهيونية، في سنوات حكم أوباما، إلّا أنّ حدود الخلاف وحدّته في الأشهر الأخيرة، عقب غزو روسيا أوكرانيا، تراجعت، حتى بات من الصعب رؤيتها، إذ تراجع الاهتمام الأميركي بإعادة إحياء الاتفاق النووي، كما أوضحه تسجيلٌ مسرّب لبايدن، وصف فيه الاتفاق النووي بأنه "في حكم الميت"، وإن رفض، وفق التسجيل نفسه، إعلان موته.
قد يعني تراجع الاهتمام الأميركي، بعودة الاتفاق النووي، قراراً أميركياً بضرورة التعامل مع قدرات إيران النووية ونفوذها الإقليمي أمراً واقعاً
إذاً، الإدارة الأميركية الحالية لا تراهن/ ترغب في إعادة إحياء الاتفاق النووي، ما يعني تجاوز جميع خلافاتها مع حكومة نتنياهو المحتملة في هذا الشأن، الاتفاق النووي والعقوبات الاقتصادية ورفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب والموقف من دور إيران الإقليمي، بل قد يعني توافقاً أميركياً - صهيونياً على خطة مشتركة في هذا الملف، تتضمّن مخطّطات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية وإعلامية، خشنة وناعمة، تستهدف ضرب مشروع إيران النووي، وتقلّص نفوذها الإقليمي، وربما دعم مسارات تغيير نظامها الحاكم، عبر دور صهيوني خشن كبير.
وقد يعني تراجع الاهتمام الأميركي، بعودة الاتفاق النووي، قراراً أميركياً بضرورة التعامل مع قدرات إيران النووية ونفوذها الإقليمي أمراً واقعاً لا مفرّ منه، يستبعد كاتب المقالة هذا الاحتمال. في كل الأحوال، ستكشف الأشهر القليلة المقبلة حيثيات الموقف الأميركي من هذا الملف، الذي تجاهلته، بصورة شبه مطلقة، استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي أعلنتها إدارة بايدن في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، إذ حصرت هذه الاستراتيجية الخطر الإيراني في مجال إيران الإقليمي، بعدما طرحتها الاستراتيجيات السابقة واحداً من مصادر تهديد الأمن القومي الأميركي. وفي كل الأحوال، يوحي تراجع الاهتمام الأميركي بالملف الإيراني عامةً، والنووي خاصةً، بتقلص تأثيره في العلاقة الأميركية مع نتنياهو وحكومته الجديدة.
تسعى استراتيجية الأمن القومي الأميركي 2022 لتقييد القدرات الروسية، من خلال العمل مع الحلفاء، الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وأوكرانيا، على جعل غزوها أوكرانيا فشلاً استراتيجياً، ونصّت الاستراتيجية المذكورة على تراجع القدرات الروسية، نتيجة نجاح السياسات الأميركية وحلفائها في أوكرانيا وأوروبا، إلى درجة التقليل من الخطر الروسي على المصالح والأمن القومي الأميركي، على عكس ما ذهبت إليه استراتيجيات الأمن القومي الأميركي السابقة، بما فيها دليل بايدن الاستراتيجي المؤقت الذي أعلن في مارس/ آذار 2021، والذي اعتبر روسيا وممارساتها من مصادر تهديد المصالح والأمن القومي الأميركي. لذا، قد تتراجع أهمية علاقات الاحتلال الصهيوني مع روسيا إلى حدّها الأدنى، نظراً لاعتماد الولايات المتحدة على جهود أوكرانيا؛ المدعومة أميركياً وأوروبياً، في الحدّ من قدرات روسيا وتطويقها، بما فيها محاصرتها، أو التضييق عليها، اقتصادياً.
مستقبل العلاقات الأميركية - الصهيونية مرتبط بمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي
في المقابل، يتصاعد الاهتمام والقلق والتركيز الأميركي على ملف الصين، التنافس معها، التي تمثل، وفق جميع القراءات والتحليلات السياسية والاقتصادية، كذلك، التصريحات الرسيمة الأميركية، بما فيها استراتيجية الأمن القومي الأميركي 2022، الخطر الحقيقي والوحيد على مصالح أميركا ونفوذها وسيطرتها دولياً. بناءً عليه، يمكن اعتبار ملف العلاقات الصهيونية - الصينية، الملف الأهم والأخطر على طبيعة العلاقات الأميركية - الصهيونية، راهناً ومستقبلاً، وخصوصاً في ظل قراءات وتحليلات تعتقد أن الاحتلال الصهيوني يتعمّد تلافي الدخول في ثنايا الصراع الأميركي - الصيني، كي لا يخسر دعم كلا الطرفين مستقبلاً، في حال تمكُّن أحدهما من حسم الصراع لمصلحته.
من ذلك كله، نجد أن مستقبل العلاقات الأميركية - الصهيونية مرتبط بمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي، اللذين يهدّدهما صعود قوة الصين اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً على المستوى العالمي، فيما لا ترقى أهمية باقي الملفات إلى درجة تؤثر بطبيعة العلاقة الاستراتيجية بين أميركا والاحتلال الصهيوني. لذا، قد تختلف إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو في بعض التفاصيل والحيثيات، أو حتى في الأسلوب الذي قد تعتمده حكومة نتنياهو في ما يتعلق بمشروعها الاستيطاني وبالقضية الفلسطينية، لكنها مجرّد خلافات سياسية وإعلامية لا تمسّ جذر العلاقة الاستراتيجية الأميركية - الصهيونية. فيما يمثل ملف العلاقات الصهيونية - الصينية، مصدر القلق الأميركي والصهيوني الوحيد والحقيقي الذي قد يهدّد مستوى (وطبيعة) العلاقة بينهما على المديين، المتوسّط والبعيد.