انهيار النظام العربي
منذ منتصف الثمانينيات، مع اختفاء الرخاء الذي أحدثته الطفرة النفطية في دول عربية عديدة، ودخول دول عربية عديدة أخرى في أزمات اجتماعية ـ اقتصادية، أخذت شكل الانفجارات، بدءًا بما سميت انفجارات الخبز. ومع الاختلاف في أوضاع البلدان العربية الذي كان قائمًا في السبعينيات، حيث اتسعت الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم العربي، انفرط عقد التوافق العربي، ليحافظ على شكله الخاوي في أحسن الأحوال. وداخليًا استمر الاستقطاب الاجتماعي، وانهارت معادلة السلطات المستبدّة التي تقوم على إلغاء الحريات مقابل لقمة العيش. انهارت الطبقة الوسطى، وزاد الفقراء فقرًا، وزاد الأغنياء غنى واستحوذوا على مزيد من السلطات، وزادت نسبة البطالة بين الشباب، خصوصًا خريجي الجامعات، ما أحدث شرارة الثورات العربية في نهاية العقد الأول من القرن الجديد، والتي بدأت في تونس وسرعان ما لحقتها بلدان الثورات العربية الأخرى. لم تستطع ثورات هذه البلدان إنجاز النقلة التي تتجاوز بها أزماتها السابقة، وقد أدت المقاومة العنيفة للسلطات، ومستوى التدمير الذي أحدثه الاستبداد في هذه الدول عقودًا، إلى ظهور هذه الدول، وكأن حالها أسوأ من الحالة التي كانت عليها في زمن الطغاة.
زادت الثورات العربية من انقسام النظام العربي، إضافة إلى الانقسامات التي كانت سائدة قبلها
زادت الثورات العربية من انقسام النظام العربي، إضافة إلى الانقسامات التي كانت سائدة قبلها، وزادت التدخلات المالية والدعم العسكري لأطراف في صراعات الدول التي استمر فيها الصراع المسلح، مثل ليبيا واليمن وسورية، فباتت لكل دولة تبحث عن دور إقليمي أدواتها المحلية للتأثير على هذه الثورات، وسعت دول إلى التأثير على الصراع بشكل مباشر، كما جرى في اليمن من خلال التدخل الخليجي المباشر في المعارك أو التدخل شبه المعلن، مثلما حال الإمارات في ليبيا أو التدخل المستتر، مثلما هو الحال في سورية. وفي جميع هذه التدخلات، كان من الواضح أن التحالف الخليجي الذي يشكل الثنائي السعودي ـ الإماراتي محوره، يسعى، وبشكل حثيث، إلى إفشال الثورات العربية، حتى لا تكون عاملًا ملهمًا، وتنجح في تغيير البنية الهزيلة لدول النظام العربي الذي باتت دول الخليج هي المتحكّم به في العقود الثلاثة الأخيرة.
نجح النظام الدولي في إرباك أولويات النظام العربي، وتطويع توازنه دوليًا.
لم يبقَ النظام العربي على حاله بفعل الثورات العربية، فهذا النظام انقسم بشكل حادّ منذ الاحتلال العراقي للكويت. فمع هذه السابقة، تم كسر ثوابت عديدة سادت العلاقات العربية ـ العربية قبلها، فقد حكم هذه الخلافات سقف، وإنْ وصل، في بعض الحالات، إلى النزاع المسلح، لكنه لم يصل إلى الحرب الشاملة، واحتلال كامل من بلد عربي إلى بلد عربي آخر. جعلت هذه السابقة بعض الدول العربية تعيد ترتيب أولوياتها بشأن تصنيف العدو، وأصبح الشقيق القريب يشكل خطرًا داهمًا لا يستطيعه العدو البعيد. بذلك أنتجت حرب الخليج شرخًا عميقًا في العلاقات العربية ـ العربية. وأخذ هذا الشرخ يزداد، وينتج حالة من الاستنفاع السياسي التي شهدتها دول المنطقة، وعكست نفسها على مجمل النظام العربي الذي دخل في مرحلة التحلل الذي عبر عنه هذا النظام في التعامل مع الثورات العربية التي ضربت أعضاء عديدين في النظام ذاته، حيث وجد النظام الجماعي نفسه عاجزًا عن التعامل مع الوقائع الجديدة، ما تسبب في الارتداد إلى وطنيات محلية في غاية الرداءة، لتبرير سياساتٍ متعارضة مع العمل الجماعي العربي مع اتفاقاته، ومتعارضةٍ حتى مع الجيران المباشرين لهذا البلد أو ذلك. هذه الوطنيات التي قامت على تعارضاتٍ مصطنعةٍ بين قضايا غارقة في محليتها، مع قضايا جماعية في غاية الأهمية.
سابقًا، تعرّض النظام العربي إلى عدة محاولات لتفكيكه، من خلال البحث عن طرح أنظمة بديلة عنه، تتجاوز الدول العربية لتربطها مع دول إقليمية أخرى بأنظمة جماعية، تقوم على أسس مختلفة، وطرحت إسرائيل بناء "النظام الشرق أوسطي" بديلًا عن النظام القائم. وهو من الأنظمة البديلة التي طرحت للمس بالنظام العربي ورابطته القومية على هشاشتها، من خلال إدخال بلدان غير عربية على النظام، في مقدمتها إسرائيل. وإذا كان النظام العربي الرسمي قد صمد على المستوى الشكلي في هذا التحدي، إلا أنه، في التحدّي الموضوعي، فشل فشلًا ذريعًا في الاستمرار كنظام جماعي عربي، قادر على إنجاز توافق الحد الأدنى بين دوله الأعضاء.
انهيار النظام العربي تعبير عن انهيار مرحلة بكاملها، وتعبير عن انهيار العلاقات العربية البينية
منذ البداية، كانت استجابة النظام العربي لاختراق النظام الدولي للمنطقة سلبية، حيث نجح النظام الدولي في إرباك أولويات النظام العربي، وتطويع توازنه دوليًا. وقد لازم المأزق جامعة الدول العربية منذ نشأتها في عام 1945، باعتبار أن نشأتها كانت على أساس من العلاقات الدولية/ العربية، والحفاظ على مستواها في هذه الحدود، من دون محاولة تطويرها إلى مستوى أعلى من العلاقات الدولية التي سادت بين البلدان العربية، وقد أدّى الاختراق الدولي، تبعًا لذلك، إلى نقل الصراعات إلى مستويات أعلى بين الدول العربية. ترافق ذلك مع ازدياد الخطر الخارجي، الناجم عن مفهوم المجال الأمني وغياب التوجّه القومي، وقصور الدور البنيوي والسلوكي للجامعة العربية. وتاريخيًا، تراجعت وتردت العلاقات العربية ـ العربية خلال العقود التالية للتأسيس، وبدل أن تنتج هذه الدولة تقاربات واندماجات أعلى، وجدناها، تخوض صراعات محاور منذ الخمسينيات، وبقيت تتردّى، وصولًا إلى التدخلات العسكرية البينية، ما حوّل النظام العربي الرسمي إلى قشرة خارجية لا معنى لها، تحتوي الصراعات العنيفة بين أطرافها، المنقسمين سياسيًا على بعضهم، لأسبابٍ تتعلق بالانقسام العالمي زمن الحرب الباردة، وانقسامات محاور إقليمية بعد انتهاء هذه الحرب.
مع ولادة ما يمكن تسميتها "الوطنيات العربية الحديثة" التي أخذت الصيغة الأنانية، وعلى حساب العمل الجماعي العربي، والتي أتت بصيغة "مصر أولًا" "سورية أولًا" "الإمارات أولًا" .. إلخ. بات العمل الجماعي العربي عبئًا على السلطات التي طرحت هذه شعارات "الوطنية الحديثة" في بلدانها، وقد وجد دعاة هذه الوطنيات من المناسب ترك مؤسسات النظام العربي تنهار فعليًا، ولم يكن هناك أي معنىً لاستمرار هذه المؤسسات الشكلي، والذي لم يعد يستجيب سوى لطلبات مجموعة محدّدة تسيطر على بقايا هذا النظام.
انهيار النظام العربي هو تعبير عن انهيار مرحلة بكاملها، وتعبير عن انهيار العلاقات العربية البينية، وانهيار توافقات الحد الأدنى، إنه تعبير عن حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة، والتي عنوانها الأساسي الذي تتعامل السلطات الناجية من الثورات العربية "أنا وبعدي الطوفان"، وكأن المنطقة لا تعيش في قلب الطوفان!