انفجار بمثابة جدار فصل

19 اغسطس 2022
+ الخط -

يمكن القول إن انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، بعد بداية رحلة الانهيار التي يعيشها اللبنانيون، هو جريمة لم تطوِ الزمان فحسب، وليس محض مدة فاصلة أو قطع في الاستمرارية بين مرحلتين، وليس مجرّد إعلان حربٍ على الناس والمجتمع فقط. انفجار المرفأ هو انقطاع تاريخي، حد فاصل، جدار عزلٍ عن كل ما سبقه، وتلاه، وزامنه. فعل من خارج مجمل السياق، فعل كان نتيجته هوّة سحيقة فصلت اللبنانيين عن القضايا الأخرى كافة.
المشكلة الكبيرة مع انفجار مرفأ بيروت، بالإضافة إلى أنه استمرار لحالة التردّي، واستكمال حالة القضاء على اللبنانيين عمومًا، والبيروتيين خصوصًا، تتمحور حول القضاء على روح وإمكان وأشكال التضامن الكامنة فيهم قبلًا. والآن بات الجميع يعلم أن الأزمات التي نشاهدها ونعايشها لم تعد محلية، وبالتالي فحلولها ليست محلية كذلك، بل باتوا يعرفون أن طاقاتهم بالكاد تعينهم على الاستمرار، وأنه لا إمكانية داخلهم وفيهم على كل أفعال التضامن. لا طاقة لرفض وقول في مقالٍ ليس بالمحلي، ولا في حيز ليس على تماسٍّ مباشر بحياتهم وحياة أهلهم وناسهم المباشرين.
قضى انفجار المرفأ على الذاكرة، والمخيلة، والتعاطف كذلك. أطاح كل الملكات الكامنة التي تميّز الناس، فإحدى التعريفات الفلسفية للإنسان أنه "حيوان يشعر". فوق هذا كله، أطاح الانفجار كل القضايا والعناوين والمفاهيم التي تؤكّد على بشريتنا الجماعية والتواصلية، بشريتنا المتخطية، والتي تعيننا على الانصراف عن نظرتنا وفرديتنا الخاصة، وتساعدنا على تكوين وتأسيس تيارات فكرية كونية عابرة لحدود الأجساد.

لم يعد أي نوع من التضامن مع لبنان كافيا، لم يعد هناك أي إمكانية لتقييم واعتبار أي موقف أو أي كلام

لربما تؤكّد رمزية تفجير مكان المرفأ على ما يمكن قوله، ولو شكلًا. أن يتم تفجير الوظيفة الأساس التي رسموا لها دولة لبنان. أن يتم تدمير الواجهة البحرية اللبنانية نحو الخارج. ولبنان كله واجهةٌ في عرف البرجوازية التجارية واليمينية الشوفينية. لذلك يأتي الانفجار في رمزيته بوصفه قرارا مبرما يهدف إلى حشر السكان في المكان، وطلباً يهدف أيضًا إلى حصر تأملاتهم في العالم والإنسانية.
وقد نجح المفجّرون في هذه المسألة، إذ بدأ اللبنانيون يشعرون بتأخر ردّات فعلهم، وتلكؤ الجدل الكامن فيهم جرّاء إعلان أي موقفٍ تضامني، أو الشروع في أي تحليلٍ يتعلق بمختلف القضايا الإقليمية أو الكونية، خصوصًا في الاعتداءات الإسرائيلية التي تطاول غزّة وناسها على سبيل المثال لا الحصر.
بالتأكيد، لا يمكن إلا القول إن التضامن مع الشعب الفلسطيني، في موقعه، مطلق. وإن قضية سلخه عن أرضه هي قضيتنا، مرة كلبنانيين، ومرة كعرب. وإن التضامن مع الشعب في غزّة، على وجه الخصوص مطلق كذلك. إلا أن هذا النوع من التضامن لا يُغني، لا يوقف الانهيار الداخلي، ولا يسدّ الجوع ويروي الظمأ من ناحية، ولا يردّ الصواريخ والغارات عن أهل غزّة من ناحية ثانية. لذلك، لا يمكن استكمال التضامن وتتميمه لكي يصبح فعلًا، لأنه تضامن موقوف، تضامن لزوم ما لا يلزم، تضامن بهدف الرضى عن النفس حصرًا. رجاءً، لا يحاول أحدٌ إقناعنا بأن مجرّد هذا التضامن كافٍ.
لا، لم يعد أي نوع من التضامن كافيا، لم يعد هناك أي إمكانية لتقييم واعتبار أي موقف أو أي كلام. لقد تخطّى سير الأحداث هذا كله، إذ لم يعد أي كلام يغيّر في المعادلة. هو يزيد الطين بلة، لأنه يثير شعور الاشمئزاز من النفس الناتج عن اشمئزاز من العجز، الاشمئزاز من كل الأشخاص والقوى والأحداث التي أوصلت اللبنانيين إلى ما هم فيه وعليه أيضًا.

اختفت كل المقدرة على التخطّي أو التأمل أو التفكّر في ما هو أبعد من اليومي، أو لربما أبعد من العيني المباشر

يمكن تشبيه الانفجار بجدار الفصل العنصري الذي شيّده الاحتلال بهدف فصل البلاد عن كل التاريخ الذي كانت جزءًا منه في الماضي القريب، التاريخ الذي تذخر به، فالاحتلال يريد أن يفصل البلاد عن كل العلاقات التي كانت تجمع الناس في المكان والمدى قبل أن يكون. هكذا تمامًا أصبح انفجار المرفأ في بيروت بالنسبة للبنانيين. هو حالة فصل بين اللبنانيين وأنفسهم من ناحية، وفصل بينهم وبين القضايا منن ناحية ثانية، إذ أصبحت القضايا الوحيدة التي تهيمن على المشهد هي قضايا البقاء والنجاة. انهمك اللبنانيون، بعد الانهيار والانفجار، في بُعدٍ واحدٍ فقط، أعني بُعد الاستمرار المتمثل بالعيش المرتبط بمحاولة تأمين الطعام والشراب... إلخ. حتى مفاهيم التعليم والتطوير والترقي لم يعد لها أي مرادفٍ في القواميس.
إن كان هناك من يريد أن يتهمهم، بعد كل ما جرى وسيجري، فليتفضل. سيتّهم اللبنانيون أنفسهم معه، بل قبله إن اضطرّ الأمر. انقضى الشعور بأي ذنب، خصوصًا الشعور بأي حاجةٍ وطاقةٍ للدفاع عن النفس. لقد أُنهِك اللبنانيون، فعليًا وجدّيًا، بعد أن صرفوا كل طاقةٍ على تحقيق الاستمرار، بحيث اختفت كل المقدرة على التخطّي أو التأمل أو التفكّر في ما هو أبعد من اليومي، أو لربما أبعد من العيني المباشر. هو ليس سببًا للشعور بالفخر، لكنه ليس مناسبة للشعور بالضعف والوهن كذلك. لن يؤنّبهم ضميرهم بعد اليوم، فالبحث الآن لا يتمحور حول اكتشاف أوطان بديلة، لا هنا ولا في الخارج، بل البحث عن قدرةٍ في استعادة الشعور في خضم هذا التوتر والخوف المهيمن.
يبقى أن غزّة، مع مرور مزيدٍ من الوقت، تقاتل وحدها. حتى مجمل الفصائل لا تشعر أنها مهتمة بالقتال. ناس غزّة تموت من دون أي قدرة على فعل أي شيء. مجرّد تضامن صامت بات يفتقد أي معنىً وأي أثر وأي نتيجة. غزّة تقاتل ونحن في لبنان منهمكون بقتالنا للاستمرار أيضًا، ولا مجال للمفاضلة بين القتالين.
نحن في لبنان مهتمون بنوع محدّد من القتال يسير باتجاه هدف واحد وحيد، هو القدرة على الرحيل، كل إلى منفاه.