انتقام ربّاني من البؤساء
قال ليغولاس لرفيقيه "إنها الشمسُ الحمراء تشرق، دماءٌ قد سفكت الليلة". ليغولاس الجنّي ورفيقاه، أراغون والقزمُ غيملي، شخصياتٌ خيالية رسمها جون تولكين (ج. ر. ر. تولكين) في روايته "سيد الخواتم" المنشورةِ أواسط القرن الماضي، والتي تحولت إلى سلسلة أفلام بدايات القرن الجاري. يعدّ العملُ مِن أهم السرديات الملحمية في القرن العشرين. الخيال والخرافات والسحر والبطولات والأقوام الغريبة والمخلوقات الأسطورية مضامين للرواية. تلك العبارةُ التي ربطت حمرةَ الشمس بالدماء منسجمةٌ مع روح العمل.
هي ليست مقولةً جديدة. كانت العجائزُ حيث ولدتْ يربطن السماءَ الحمراء بدماءٍ زكّية سفكت في اليوم ذاته من قديم الزمان. ورثنَ هذا عن أمهاتِهن وربما آبائِهن، وهكذا يمتدّ توارث المقولاتِ قهقرائياً إلى عصور سالفة. غضب السماء أحمر في الحكايات الشعبية، ربما لأنه لون الدم أو لأن الوجهَ يحمرّ غضباً. الحصيلةُ أن الأساطيرَ وربْطَ الأمور بقوى مجهولة أو بخالق الحياة تمثل جانباً مهماً من الإبداع السردي والصوري والسيميائي… سواء في الملاحم أو الأعمالِ الأدبية أو الحكايات الشعبية أو الفنون البصَرية. الخيالُ عمادٌ من أعمدة الفنون السبعة. لكنه يبقى إبداعاً حدوده السرد ومحاولةَ فهمٍ للمجاهيل تتداوله العجائزُ.
المصيبةُ تشرَع بالخروج عن إطار الفهم العجائزي والسردِ الإبداعي إلى خطابٍ دينيّ تراد له السيادةُ على العقول والشيوعُ في المجتمعات البائسة. يزداد الحالُ سوءاً حين يُرى الخالق منتقماً كتفسيرٍ لظاهرةٍ طبيعية ليست يومية. يضفي رجلُ الدين، أو الدينسياسيُّ، مشاعرِه على الخالق، فيصف ربَه بما يشعر به. المرء غاضبٌ أو مستاء أو حزين، فيرى الخالقَ غاضباً أو ساخطاً. فهل هناك مصيبةٌ أكبر وغطرسةٌ أشد من هذه؟
عندما يطلّ زعيمُ التيار الصدري العراقي، مقتدى الصدر، ببيان جديد للحديث عن الكوارث الطبيعية، خصوصا في المغرب وليبيا، ويصفها بأنها نتيجة غضب إلهي، فهذا يمثل انحطاطاً يعمّق من جهلِ البيئة الاجتماعية والسياسية والدينية الخاضعة له. الصدر يقول منظّرا عن كارثة غرق مدينة درنة بسبب إعصار وانهيار سدّين إن "ذنبها (ليبيا) غيرُ مغفور في عدم الكشف عن مصير… السيدِ المُغيبِ موسى الصدر". كما يربط زلزالَ الحوز في المغرب وغيرَه من النكبات بمواقف سياسية، مثل تطبيع المغرب مع إسرائيل أو قضايا حقوقية اجتماعية مثل المثليين.
يضفي رجلُ الدين، أو الدينسياسيُّ، مشاعرِه على الخالق، فيصف ربَه بما يشعر به
من جانب، هذا خطابُ شديدُ الكراهية، لا يليق بإنسان عادي، فضلاً عن شخصٍ يرى نفسه زعيماً دينياً وسياسياً. ينطلق الصدر من حقدٍ لأن أحد أولاد عمومة جدِّه قد خطفه الرئيس الليبي الأسبق معمّر القذافي. خطابٌ كهذا منسجم مع طابعه المدفوعِ بالغضب المستمرّ والمحكومِ بعقيدة أنه السيد والآخرون أتباع أو أعداء. لذا يعتقد أن من حقّه أن يتحدّث بسخط ديني تجاه شعب آخر لا تربطه صلةٌ به. وفي الوقت الذي يتناسى الصدر أنه متهم أو متورّط بالدماء منذ عام 2003 إلى 2008، وأنه دفَع كثيرين من شباب تيّاره إلى محارق معاركه من أجل السلطان، يتناسى أيضا أن الليبيين لم يقتلوا مؤسّس حركة أمل اللبنانية موسى الصدر، هذا إنْ عرف جلُّهم مَن كان أصلاً، بل قتله القذافي الذي أذاق شعبَه العذاب.
من جانب آخر، الصدر، مثل كثيرين من رجال الدين المسلمين وغيرِهم، يعطي نفسَه الحقَّ بالنطق نيابةً عن السماء. إنها لجرأة مِن أي إنسان أن يقول "ذنبها غير مغفور" تجاه شعب بأكمله. هذه الجرأة على ربّ الأديان لا يُقدِم عليها مَن لا يؤمنون بالوحي أو المؤمنون ممَن يتخذون الدينَ طريقاً لخلاصِهم الروحي، بل إنها نابعة غالباً من شخصياتٍ ترى نفسَها ممثلةً للاعتقاد الديني أو حارسةً له. إنها تمارس هذا الحقّ غيرَ المبرّر وغير المفهوم بدعم من تجمّعات بشرية جاهلة ما تزال تنظر إلى صروف الطبيعة بوعي المؤمنين بالسحرة وأتباعِ كهنة المعابد. في النهاية، عوّد هؤلاء الناس على أن يصنفوا الناس إلى المُساقين إلى النار أو الذاهبين إلى الجنة. بسهولةٍ، يمكن العثورُ على أيّ رجل دين يقول إن فلانا في النار، وكأنه كان في جلسة مكاشفة مع مَن بيدهم سجلُ المقرَّرِ ذهابُهم إلى الجحيم.
الكوارث الطبيعية مفسرةٌ ونابعةٌ من قوة طبيعية، وليس من غضبٍ رباني أو رضوانٍ إلهي
ليس كلام هذا الشخص جديداً على المنظومات الدينية. سمعناه كثيرا، أخيرا، بالربط بين الغضب الرباني وزلزال جنوب تركيا وشمال سورية. في الولايات المتحدة، يكرّر بعض رجال الدين الأميركيين أن الحرائق والأعاصير المميتة غضبٌ من الرب. كانت الجائحةُ مناسبةً لسدنة المنابر الدينية بوصفها سخطاً سماوياً نتيجةَ انحرافِ الإنسان، وإرادةً ربانيةً لإجبار النساء على ارتداء النقابِ بوضع الكمّامات وتدخلاً طهرانياً لجعل الناس يغتسلون للتخلص من احتمالات أن يعلق الفيروس. للخطابُ مرجعياتُه الثقافيةُ الموغلةُ في القدم. لا يريد هؤلاء السماحَ للناس بأنْ يفهموا أنّ الزلزالَ كما الإعصارَ والفيضانَ والبركانَ… نتيجةٌ قوانينَ موجودةٍ في الطبيعة التي لا تختلف من حيث المبدأ عن قانون أن طعن شخص بآلة حادّة قد يؤدّي إلى وفاته. هذا قانون فيزيائي وفيزيولوجي، وتلك أيضا قوانينُ فيزيائيةٌ أو كيميائية أو بيولوجية. وكثير من تلك الكوارث الطبيعية تحصل أيضا بتدخّل بشري مباشر أو غير مباشر. أما الضحايا فهم في الغالب بؤساءُ البشر ممن تنزلُ عليهم مطرقةُ الحروبِ وظلمِ الأنظمة ولا يملكون ما يوفر لهم مهرباً من صخبِ الطبيعة.
كما أن دفةَ الفهم لدى هؤلاء تتغير بحسب علاقتِهم بالمجموعات البشرية التي تحلّ عليها صروفُ الطبيعة. مثلاً في زلزال الشمال السوري، نجد أن الإسلاميين المعارضين نظام الأسد حاولوا فهم الزلزالِ في مناطق تمركز الفارّين من القمع ومجموعاتٍ معارضة أنه اختبار إلهي، أو أن الله يحب الضحايا الأطفال والنساء والرجال هناك، لذا أخذَهم إلى جوارِه. في النهاية، لا يستطيعون سوى البقاء عالقين في التفسيرات الغيبيّة، في إطار سردٍ هو مضلَّل لكونه مزيجاً من الجهل بما باتت معرفته متاحةً ومِن الشعور بالضعف أمام قوة الطبيعة. وهو مضلِّل، لأنه ينطلق من إعطاء أحدِهم، وهو الضعيف والمحدود والخائف، نفسَه حقَّ الحديثِ نيابةً عن القوة المطلقة.
بالطبع، هناك أسئلةٌ بلا إجابات شافيةٍ حتى بالنسبة للمفكرين غير الدينيين من المؤمنين بوجود قوة إلهية مدركةٍ وقصديةٍ. جوهرُ تلك الأسئلة يظهر جلياً في جدليات ذروةِ عصر الأنوار، وقد فجّره زلزالُ لشبونة أواسط القرن الثامن عشر الذي دمَّر العاصمةَ البرتغالية. وقتها انفجر فولتير معاتباً العنايةَ الربانية لعدم منع الكارثة، أو لأنها وضعتْ قوانينَ حصولِها، وهو ما سخر منه جان جاك روسّو، معاتباً عتابَ فولتير السماءَ. والاثنان رفضا قطعاً آراءَ بعض رجال الدين البروتستانت وقتها في ملامةِ الظلم الكاثوليكي الذي تسبّب بالغضب الرباني. هو، في النهاية، جدلٌ لاءَمَ المستوى العلميَ المحدودَ قياساً إلى ما هو عليه الآن.
يتناسى مقتدى الصدر أن الليبيين لم يقتلوا موسى الصدر، هذا إنْ عرف جلُّهم مَن كان أصلاً، بل قتله القذافي الذي أذاق شعبَه العذاب
مع فهْم العلمِ ظواهرَ مثلَ الزلازل والفيضانات والكسوف والخسوف وغيرها من العموميات شبهِ المحسومة علمياً، لم يعُد خطاباً مقبولاً أن الإرادة الإلهية المباشرة تقف وراءها، عقابا أو غضبا. يشبه الأمر ما لو أنّ النمل حين ندمّر نحن البشر مملكاتِه من دون أن ننتبه يقول إننا إنما نفعل لأننا ننفذ مشيئةَ الخالق. يشبه أولئك المراهقين الذين شاهدتُهم طفلاً وهم يرجمون كلباً حتى الموت، لا لسبب إلا لأنهم عابثون، أو لأنهم قد تربّوا على الشرور، أو، لا أدري، ربما ولدوا والشر معهم. فماذا لو كانت الكلابُ الأخرى ناطقةً وهي ترى ابنَ نوعِها يقتله الإنسانُ الذي لا تفهم قوانينَ فعلِه لأنه قوةٌ مجهولةٌ لها، وقالت إن قتل البشر الكلبَ ناتجُ غضبٍ إلهي؟!
الخطاب الذي نحن بصدده يناظر خطابَ النمل والكلاب الافتراضي، خطابُ جهلِ بطبيعة الفاعل. الجهل المفترض في حال الحيوانات مقبولٌ لأنها ليست إنسانية الذكاء، لكنه ليس كذلك بالنسبة لنا ونحن بدأنا نرى أن الكوارث الطبيعية مفسرةٌ ونابعةٌ من قوة طبيعية، وليس من غضبٍ رباني أو رضوانٍ إلهي. نعم سيكون مفهوماً عند الحديث عن المؤمنين بالخالق بناءً على رؤية الأديان الإبراهيمية، أن يقال إن تلك القوانين الطبيعية هي، في النهاية، جزءٌ من إرادة خلق قصدية ربانية وضعت في الطبيعة القدرةَ على التدمير حالَ توفر شروط معينة. في المحصلة، قضيةُ أصلِّ الخلق بين نظرية النشوء والتطوّر والانفجار العظيم والخلق الواعي والقصدي وغيرِها لا تزال غيرَ محسومة علميا، وإن حسمت الأديان الرئيسةُ موقفها منها منذ زمن بعيد. لكن، ليس لأي من المعارك الفكرية والسجالات العلمية بشأن أصل الكون وتفسير الخلق أو النشوء صلة بخطاب مقتدى الصدر وأشباهه، حين يتحدّثون عن العقاب الرباني، متجرّئين على الكلام نيابةً عن قوة غيبية بهذه الطريقة اليقينية، فقط لأنهم قرأوا نصّا تراثيا وفسروه بطريقة ما، أو لأن لهم أتباعاً يجعلونهم يعتقدون أنهم خارقو الفهم. الأمر ببساطة لا يختلف عن هتلر، حين نجا من محاولة الاغتيال والانقلاب، ظنّ أن العناية السماوية تدعمه، فمضى بعيداً في غيِّه، حتى أحرق بلدَه ونفسَه.