انتصار المقاومة الفلسطينية... أمنية 2024

27 ديسمبر 2023
+ الخط -

لو سُئلتُ عن أمنيتي للعام الجديد، فإن أقصى ما أتمنّاه انتصار المقاومة الفلسطينية. نعم، هي أمنية تحمل في طياتها أماني كثيرة سوف تكون نتيجة لإعلان انتصار المقاومة، وقد بدأت فعلا بشائر هذا النصر تلوح في الأفق، رغم كل المجازر التي يرتكبها الجيش الصهيوني يوميا في المدنيين الفلسطينيين الأبرياء، ورغم كل الدمار الكبير الذي يُلحقه بقطاع غزّة، فكلما ازداد عنف الاحتلال وارتفع منسوب جرائمه عمّق سقوطه العسكري والسياسي والأخلاقي، وكرّس عزلته على المستوى العالمي، حيث بات الرأي العام العالمي اليوم أكثر انتقادا ورفضا لجرائمه، وأكثر من ذلك، اكتشف الوجه الحقيقي لكذبة الصهيونية التي أسّست إيديولوجيتها على المأساة التاريخية لليهود، فيما هي اليوم تأتي بجرائم أكبر من التي نسجَت حولها أساطيرها.  
وقبل الجواب عن السؤال: لماذا أتمنّى أن تنتصر المقاومة؟ أو بالأحرى لماذا يجب أن تنتصر المقاومة؟ سأجيب عن السؤال:  لماذا سوف تنتصر المقاومة؟ لأن الأجوبة عن الأسئلة الثلاثة التي تبدو متشابهة ومتشابكة وتكرر نفسها هي التي تجعل من انتصار المقاومة أمنية كل الأحرار في العالم، فالمقاومة الفلسطينية انتصرت فعلا، بكل المقاييس العسكرية، منذ فجر 7 أكتوبر، وهي تنتصر يوميا من خلال كل الأعمال البطولية التي يقوم بها أفرادها الشجعان يكبدون أعتى وأقوى جيش في المنطقة خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، عندما سيأتي الوقت للكشف عن حجمها الحقيقي سوف تنهار دولته كما انهارت سمعته منذ الضربة القاصمة التي تلقّاها مع انطلاق "طوفان الأقصى".

انتصرت المقاومة بصمودها الأسطوري أكثر من 80 يوما أمام جيشٍ مسلّحٍ بأحدث الأسلحة في العالم، ومدعوم من أكبر القوى العسكرية في الغرب

انتصرت المقاومة بفضل تكتيكاتها العسكرية غير المسبوقة التي سوف تُدرّس غدا في جميع الأكاديميات العسكرية، كما تدرّس اليوم فنون حرب العصابات التي ابتدعتها الشعوب المقاومة. وهي انتصرت أيضا بفعل قوة سلاحها الذاتي الذي أكّد أن قوة السلاح لا تكمن في حجمه أو عدّته وعدده أو قوة تدميره، وإنما في طريقة استعماله، وفي إرادة من يحمله وتصميمه وشجاعته. وأخيرا، انتصرت المقاومة بصمودها الأسطوري أكثر من 80 يوما أمام جيش مسلح بأحدث الأسلحة في العالم، ومدعوم من أكبر القوى العسكرية في الغرب. ومع ذلك، ما زال المقاومون يواجهونه ببسالة على أرض الميدان، ويتحدّون خطط جنرالاته وتصريحات ساسته المتغطرسين، ويفرضون عليه تكتيكاتهم القتالية وخططهم العسكرية وشروطهم السياسية بكبرياء وإباء عزّ نظيرهما في كل الحروب غير المتناظرة كالتي تشنها إسرائيل اليوم على أكثر من مليونين وربع مليون فلسطيني، لا يملكون سوى صبرهم وصمود مقاومتهم وتصميمها وبسالتها.
أما لماذا يجب أن تنتصر المقاومة؟ فهذه ليست فقط رغبة الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي رغبة كل الأحرار في المنطقة وفي العالم. لأن انتصار المقاومة هو انتصار لثقافتها التي ما أحوج شعوب العالم العربي اليوم إليها، لأنها تبعثُ الأمل وتبثّ العزيمة في إرادة هذه الشعوب، وتعيد الثقة إلى النفوس بعد عقود من الإحباط والانكسارات المتتالية. ويكفي أنها غيّرت نظرتنا اليوم إلى العالم عما كانت عليه قبل 7 أكتوبر، وكأن هذا التاريخ جاء ليمحو من الذاكرة الجمعية العربية آثار هزيمة 1967. فهذا التاريخ، بكل حمولته الرمزية، شكّل نقطة تحول جوهرية، بل وتاريخية في المنطقة العربية، وسوف يعطي إعلان انتصار المقاومة زخما تاريخيا كبيرا سنرى آثارَه قريبا في أكثر من منطقة، وعلى أكثر من مستوى، تماما كما كان شأن الأثر الذي خلفه انتصار الثورة الفيتنامية التي ألهمت نضالات شعوب كثيرة، وخصوصا حركات الشباب في العالم الغربي الذي انتفض على أنظمته الاستعمارية والإمبريالية، وأدّى إلى ظهور حركات فكرية تحرّرية نقدية تنتقد هيمنة الفكر الغربي الاستعلائي الذي كان يعتقد أنه يحتكر الحقيقة، ويدّعي دفاعه عن الحرية وينصّب نفسه وصيا على القيم العالمية. وكذلك كان الأمر أيضا مع  الثورة الجزائرية التي أشاع انتصارها المُبهر أثرا إيجابيا سرّع بإنهاء الاستعمار في دول أفريقيا، وأدّى إلى سقوط الجمهورية الرابعة الفرنسية، وحرّض تمرد الجيش الفرنسي الذي كان سيُدخِل فرنسا في حربٍ أهليةٍ طاحنة، وبعث الأمل في شعوبٍ كثيرة، عندما أحيا فيها روح المقاومة والتحدّي من أجل نيل حريتها وتحقيق استقلالها وتقرير مصيرها.

انتصار المقاومة حاجة ملحّة عند شعوب كثيرة في المنطقة توّاقة للتحرّر من عقدة الخوف التي بثتها فيها أنظمتها القمعية

ليس انتصار المقاومة الفلسطينية مجرّد أمنية عاطفية، وإنما هو استحقاق طبيعي يستحقه الفلسطينيون، جزاء لهم على صمودهم وصبرهم وتضحياتهم الكبيرة، وهو حتمية تمسّكهم بقضيتهم أصحاب حق شرعي وتاريخي طبيعي طوال العقود السبعة الماضية، تعرّضوا خلالها لكل أنواع الظلم والاحتقار والإذلال. كما أن انتصار المقاومة حاجة ملحّة عند شعوب كثيرة في المنطقة توّاقة للتحرّر من عقدة الخوف التي بثتها فيها أنظمتها القمعية. ويكفي أن فعل المقاومة حرر كثيرين بيننا من فكر الهزيمة الذي ترسّب في العقل الجمعي العربي منذ هزيمة 1967 التي تركت آثارا غائرة في الفكر والعقل العربي الباطني. وأدّى تراكم الخيبات العربية المتتالية، وقمع الأنظمة الفاسدة والمستبدّة والظالمة، إضافة إلى عوامل أخرى محبطة، اقتصادية واجتماعية، إلى اغتيال الأمل عند شعوب عربية كثيرة، وجعلها مستسلمة لثقافة الانكسار والخنوع والهزيمة، وما فعله ويفعله فعل المقاومة اليوم في غزّة أنه يبعث كل يوم  روح الأمل من جديد في جسد الإنسان العربي الذي يرى ويتابع كيف يحارب ويصمد ويضحي ويستشهد الفلسطيني المحروم من كل شيء، من أجل نيل حرّيته وتحقيق إرادته وانتزاع حقه في معركة مصيرية وحاسمة. 

المقاومة أسقطت كل مشاريع التطبيع السياسي، فنظرة الشعوب إليها والتي جرى تسويقها أنها ستجلب التقدّم، يصعب أن تصدّق بعد اليوم

تثبت المقاومة الفلسطينية لنا يوميا أن الإرادة والإيمان بالقضية والتصميم والتضحية من أجلها هي مفاتيح كل تحرّر وتقدّم، فما نشهده اليوم هو صناعة تاريخ جديد للمنطقة ولشعوبها، ستكون له انعكاساته الكبيرة على واقعها ومستقبلها. ويكفي أن نسجل أن المقاومة أسقطت كل مشاريع التطبيع السياسي، الذي حتى وإن استمرّت بعض الأنظمة الخانعة فيه، متحدّية شعوبها، فإن نظرة هذه الشعوب إلى مشاريعه التي جرى تسويقها أنها ستجلب لهم التقدّم والرفاه والأمن والأمان، يصعب أن تصدّق بعد اليوم أي دعاية أو تضليل يحاول أن يبيع لهم الوهم الذي يرونه يتهاوى أمامهم على وقع ضربات المقاومة الفلسطينية الباسلة. 
سبق أن كتبتُ في "العربي الجديد" أن أنظمة عربية كثيرة تخاف من انتصار المقاومة، واليوم بتنا نعرف أن هذه الحقيقة أكّدها وصرح بها مسؤولون عرب أسرّوا بها في غرف مغلقة لمسؤولين غربيين، كما سبق أن كشف ذلك الدبلوماسي الأميركي المخضرم، دنيس روس، في مقال له في موقع "نيويورك تايمز"، كتب فيه أن إسرائيل ليست وحدها من تـأمل في هزيمة المقاومة الفلسطينية والقضاء عليها، وإنما تشاركها الأمنية نفسها أنظمة عربية، أسرّ له قادتها أنهم يخشون أن يضفي انتصار المقاومة الشرعية على أيديولوجية الرفض التي هي جوهر فكر (وثقافة) كل مقاومة. ... وفقط من أجل أن لا تتحقق أمنية هذه الأنظمة القمعية المنهزمة دعونا نتضرع من أجل أن يتحقق انتصار المقاومة، لأن فيه انتصارنا وتحرّرنا جميعا.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).